
البِدَاية :
أبطأتُ الخَطوَ حتَّى اقترَبَ ، ثم ابتعدْتُ ، فمَا أصَعبَ البدايات وما أسهلَها !
تتصَادمُ تنبُّؤاتُنا ، كتصادُمِ النَّغماتِ المُتوالِدةِ مِن مَقطوعةٍ مُوسيقيةٍ مُعتّقةٍ ، تشبه لقاءاتِناَ المُمّتدةِ مِنْ زَمنٍ سحِيق .
بينَ نقرةٍ وأُخرَى ، سُكونٌ عَظيم ، وإغماضَةُ جَفْنٍ تَعُودُ بي إلى صُورٍ شتَّى ، أستوعِبُها في ثوانٍ , أحتسِيها ، أنغمِسُ فيها ،
أمضي عَبرَ فراغٍ يقوُدني إلى حيثُ البدايةِ ، للقاءِ الأَوَّلِ ؛ حينَ جازَ بداخلي ، وعبرَ حواجزي ،
يُغالِبُ موانعي ، يفكُّ مَغاليقي ، يَحُلُّ طَلاسِمي ،
كالنغمِ ، يتسرَّبُ عبر ثقوب نفَسي ، يستعمِرُني !
كدّ قَلبي , تَسارَعَ نبضي ،
رقَّ لسُهدِي ! أرَّقهُ شتاتي !
مسَّني طَيفُ انشراحٍ ! حَسِبتهُ سيجتازُني ، كَما جَازُوا واكتفُوا بتركِ الأثَر،
ومابينَ هَجيرِ النَّأيِ ودأبِ القُربِ ... أفصحتُ!
وفي الأصلِ ، كنتُ مَكدودةً ، وفِيَّ انهمالٌ ؛ أوَدُّ الإفصاحَ عنهُ ، ولو بـ تعريض .
أتطلَّعُ إلى مَلَامحهِ الصَّامتةِ ، إلى ذاكَ الحنينِ الدّافقِ في نظراته ِ، إلى زمنٍ مِن الاغترابِ ، أعرِفُهُ جيداً ، ولكنَّهُ كانَ قَصيّاً عنَّا ، ودوننا يمضِي .
الموعدُ لحظات هَاربة مِن تسَلْسُلها ،
نُحاولُ إشغالَ الفراغِ بالموسِيقى ، وكأنَّنا نستعينُ بها ؛ لنُبدِّدَ ذاكَ الهدُوءِ المُعتمِ !
أتأمّلُهُ مِنْ خَلفِ زُجاجٍ شاسع , وأستعيِدُ أيّاميَ الغَارِبةِ ،
وشيئاً فشيئاً ، أَربُو في أصيصٍ مُستطَرفٍ , تأخذُ عُروقي في الامتِدادِ ، في التَّشكُّلِ ؛ لأُصبِحَ ... ونُصبحَ جُزءاً مِنْ حاضرٍ يمتدُّ بنا إلى البعيدِ المُنقضي .
لم آتِ شيئاً فريَّاً , ولم أُجاهِرْ ، ولم أُذنِبْ عَمداً ، ولمْ يكُنْ أَبِي امْرَأَ سَوْءٍ ... ولَمْ ... ولَمْ .
فقط ... تَضعّضَعتُ ؛ فَلمْ أعُدْ أَقوَى ،
(فتوقّفتُ عن الكتابةِ ، وأجهشتُ في البكاء !)
مُنتهى أحلامي كانتْ : ضَيعةً تَغرقُ في الْخَبْءِ ، ومَوقِداً منهُ أقتاتُ وأصطلِي.
واليومَ تناقضَ واقعي - لأقصاهُ - مع مَا نُقِشَ في مُخيِّلتي ؛ فتهدَّمَ الكوخُ على رَأسي ، وأكلتِ الطّيرُ مِن خُبزِ يَديْ ؛ فَلم أحظَ مِنْ كُلِّ تلكَ الحِكايةِ إلا بِحشوِ رِئتيَّ بِبقايَا الرَّمَاد !.
توحُّد :
تفكَّرتُ مليَّاً ، وتأرَّقتُ ليلتي ؛ فعدتُ إلى عالمي الدَّاخليِّ المليءِ بالشُّجون وبالإشراقِ المُفاجئ الذي تملَّكني من غيرِ تمهيدٍ ، وهرعتُ لأداةِ عجزي – قلمي - لأكتبَ لكَ ما استعصى على منطِقي .
غمرني إجهادُ العائدِ من سفرٍ طويلٍ ... طويل ! أغمضتُ عينيَّ مِن جديدٍ ورُحتُ أتوهَّم ،
رأيتُني أقِفُ في وجهِ الشَّمسِ ، وكُنتَ ظِلّي، أنا والظِّلُّ توحَّدنَا ؛ حتّى صِرنا كياناً واحداً !
شاخصٌ قلبي صَوبَ الشُّروق ، أُطيلُ الوقوفَ ، أرقبُ ولادَتَهُ العسيرة ، تلتهِبُ حواسّي،
أُوصمُ بالجنونِ ! بالخروجِ عن جادَّةِ العقلِ !
ولكني ، وفي حُضن وَهْدَتي ، أُبصِرُ زُرقةَ البحرِ ، وأسمعُ هَمَسَ السماءِ ... تُغويني !
فأحِنُّ إلى أُنوثتي، صَبوَتي ، أُعيذُني من شرِّ نفسي ، أجمعُ كفيَّ ، وأتلُو حِرْزِي ، أنّفُثُ ، وأقطِفُ أحَلاميَ النَّائمة !.
شَجَنْ :
_ في ذاتِ وجعٍ مِنها ، قال :
كُلُّ ما يُبكِيكِ يُشجِيني ! وأنا طائٍرٌ غِرِّيدٌ ، لا أملُكُ إلّا صوتيَ ، وهذا الغُصنَ الغضَّ ، والمَدى .
_ ومحبّتي لكَ ، كما صفحةِ الماءِ ، فيها أرى انعكاس خيالي ، فأُحِبُّني أكثر !
_ وكأنِّي أنا، وقهوتي ، ومُوسيقايَ ، وكُلُّ أشيائي الحَميمةِ - كُنَّا في انتظارِ لحظةٍ كَهذه !
_ معكَ استرجعتُ مفقوداتي !
_ ومِثلُكِ أنا شاخِصٌ قلبي صوبَ غَمامةٍ قصيّةٍ ؛ أُودِعُها خَبيئتي، أُطيلُ الوقوفَ ، وملِياً أتملَّى مِنها ولا أكتفي !.
مَسافَة حُلُمْ :
والعجيبُ أنَّ ما يفصِلُ بيننا هو مُجرَّدُ فراغٍ ملأناه بزفَراتِنا ؛ فامتلأَ ! ومواعيدٌ لا يتجاوزُ عمرُهَا زُهاءَ الدَّقائق تفوتُ في قلقْ !
ثُمَّ نأتي على عَجلٍ ، نطَوِي المَسافاتِ ، نُضرِمُ النِّيرانَ فِيهَا ؛ لتصطلي العتَمةُ المُكابِرةُ ، وتتَّقد ! (فقد نامتِ الشَّمسُ طويلاً والأنجُمُ !) .
_ خُذني ، وانّتزِعني ، وخبِّئني عَنِّي وعَنكَ ، وسَافِر بي في مَتاهاتِ الزّمنِ ، وابذُرني سُنبلةً في قلبِ الوَرقْ .
_ أتذكُرُ يومَ نَاشدْتني وحَرَّضتني حِين شَكوتُ إليكَ استلابَ الوطنِ ؟
يومَ زَهُدْتُ عن رسمِ الأخيِلةِ ، وملامحِ الأصدقاءِ الصَّامتينَ ، والمُغيَّبين الباقين باسم الـ (الوطن ) ،
كُنتُ أحدِّثُكَ عنِ اليومِ ورتابتهِ ، فترسُمَ لي الغدَ كـ ياقُوتةٍ تشِعُّ ؛ فينداحُ سَناهَا في عَراجينِ أرواحِناَ !
كُنتُ أُحدِّثكَ عن التعاسةِ ؛ فتُقاطِعُني بمقطوعةٍ تملأُ المَدى الشَّاسعَ بيننا بتراتيلِ تمسحُ الوجومَ عن وجه الفضاءِ !
_ رُوحانِ مُسهَّدتانِ نحنُ ، تتخندقُ الألحانُ فِينَا إلى الأبدِ ، تَسبينَا ، نتزمَّلُ بهديلِ الحمائِمِ ، وباخضرارِ الربيعِ نتدثَّرُ !
_ أحرارٌ وُلِدْنَا ، ومِنْ مَناهِلِ الأبجديةِ رَضَعناَ ، حَرفاً سائِغاً رَوْتنَا ، جَادتْ ؛ فـ هنَئْنَا !
_ تنصَرِمُ اللحظةُ ، وأستميتُها ، تتلُوهاَ أُخرى ، تَأتي دُونكَ ؛ فأزرَعُكَ غيَمةً طَازِجةً نديّةً ، كـ كلماتِكَ التي أقرؤُهَا – الآن - وتُقرِئُنِي فيها السَّلامَ والتحيّة !
ألمسُ صَوتكَ المحمومُ ، يمتدّ مُعتذراً (تأخَّرنا، تأخَّرتِ، تأخَّرتُ) بعضَ الشيءِ ، لا بأسَ ! لم ولن نيأسَ !
تعوّدناَ إجحافَ الوقتِ ، تصَالحنَا مَع الزَّمنِ ، دَارينَا , وارَينَا , وأبداً تصهَلُ فِينَا خيُولُ الشّوقِ !
وها إنَّني بين دمعتين : قلمٌ ووترٌ . أسألُكَ لتسكُبني حرفاً / لحناً ؛ فترمَقنُي مِن البعيدِ .. البعيدِ ، وتُهديني غيمةً ماطِرةً ، وغُضناً مِن شجنٍ !.
نازكـ
5/16/2014