رحلة الحلم والأجر الروحي!
(نص إبداعي قصصي ذو طابع تأملي)
البداية الغريبة والأسئلة التي لا إجابة لها!
الحياة تُخبئ بين طياتها لحظاتٍ تُقلب تصوّراتنا رأسًا على عقب: هل الواقع هو ما نراه بأعيننا، أم أن هناك عوالمَ أخرى تختبئ خلف حجاب الأحلام؟ وهل للأحلام معنى أعمق مما نعتقد؟ أحيانًا، نستيقظ من حلم غريب، مليء بالرموز والأحداث التي تبدو غير منطقية، لكنها تترك فينا أثرًا ينحتُ نفسه في وجداننا. قد تتلاشى تفاصيل الحلم من ذاكرتنا، لكنّ أثره يظلّ كطيفٍ عالقٍ في النفس، يُهمس بأسئلةٍ لا نجد لها جوابًا.
في أحد الأيام، استيقظت من حلم غريب، شعرت بأنه أكثر من مجرد حلم عابر. كان حلمًا مليئًا بالأحداث الغريبة، والأماكن التي لم أزرها من قبل، وأشخاص لم أعرفهم، لكنهم في الحلم كانوا جزءًا من حياتي. قررت أن أكتب هذا الحلم، ليس فقط لتوثيق ما حدث، بل لأبحث عن المعنى الخفي الذي قد يكون مختبئًا وراء هذه الرحلة الغريبة.
هل يمكن أن تكون الأحلام وسيلة لفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ وهل يمكن أن نُكافأ على الخير الذي نقدمه، حتى لو كان في عالم الأحلام؟ هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني عندما بدأت أكتب هذه القصة. قصة عن رحلة غريبة إلى مطعمٍ فارغ، وعن أشخاصٍ لم أعرفهم، لكنني شعرت بأنني يجب أن أساعدهم. قصة عن الخير الذي نقدمه دون انتظار مقابل، وعن الأجر الروحي الذي قد نحصل عليه، حتى في أحلامنا.
الرحلة الغامضة!
لم يكن ذلك اليوم يختلف عن غيره في الظاهر، لكنّ القدر كان ينسج خيوطًا لم أكن أعرفها. كنت أقود سيارتي في شوارع المدينة المألوفة، وأفكر في أمور الحياة الروتينية وفجأةً، توقّفت سيارتي في منتصف الطريق كما لو أن قوةً غامضةً أحكمت قبضتها على السيارة!، حاولت إعادة تشغيل المحرك، لكن دون جدوى. نظرت حولي فوجدت نفسي في مكان غريب، لم أكن أعرفه من قبل. انسحب الضباب الشاحب كستارةٍ على زجاج السيارة، محوّلاً الشوارع المألوفة إلى لوحةٍ غريبةٍ، وكأنّي دخلت فجأةً في عالمٍ موازٍ.
لم أكن وحيدًا. رأيت شقيقتين من شقيقاتي تقفان على جانب الطريق، وكأنهما تنتظرانني. لم أكن أتوقع رؤيتهما هنا، لكننا جلسنا معًا وبدأنا نتحدث. الحديث كان غريبًا، دار حول أشياء لا أفهمها: أغراض قديمة، قطع بلاستيكية، وسلع متنوعة. كنا نتحاور حولها وكأننا نتقاسمها، رغم أنني لم أفهم تمامًا ما الذي يجري.
كان معي طفل صغير، لم يكن ابني، لكن في هذا الحلم شعرت بأنه ابني. وكانت هناك امرأة بجانبي، ليست زوجتي، لكنها في الحلم كانت زوجتي. شعرت بالارتباك، لكنني قررت أن أستمر في هذه الرحلة الغريبة. أخذتهم جميعًا في السيارة، وقررت أن أقود إلى بيت إحدى شقيقاتي. لكنها فجأة غيرت رأيها وقالت: "لا، أريد أن نذهب إلى المطعم".
نظرت إليها متسائلًا، فأضافت: "هذا المطعم جيد، وفيه مأكولات لذيذة، وأعتقد أنه سيناسبك". كنت أعرف هذا المطعم من قبل، لكن في الحلم بدا مختلفًا، وكأنه مكان جديد. قبل أن نصل، لاحظت أن السيارة كانت تسير بعكس اتجاه الطريق لفترة قصيرة، لكنني صححت المسار بسرعة والتزمت بالطريق المؤدي إلى شمال المدينة.
الصعود إلى المطعم الغامض!
بعد أن غادرنا المكان الذي كنا نتحدث فيه، عدت إلى السيارة وبدأت القيادة مرة أخرى. كنت أسير على الطريق الرئيسي للمدينة، وهو طريق مألوف بالنسبة لي، لكن شيئًا ما كان يشعرني بأن هذه الرحلة مختلفة. كانت السماء تميل إلى اللون البرتقالي، وكأن الشمس على وشك الغروب، رغم أنني كنت أعرف أن الوقت لم يكن متأخرًا إلى هذا الحد.
ثم وصلت إلى مخرجٍ على يمين الطريق. لم أكن أتذكر هذا المخرج من قبل، لكنني قررت أن أسلكه. بدأت السيارة تصعد بشكل تدريجي، وكأننا نتجه إلى منطقة مرتفعة. كانت مسارات الطريق ضيقة نوعًا ما، محاطة بأشجارٍ خضراء تزيد من شعور الغرابة. كلما صعدنا أكثر، بدأت أرى المدينة من الأعلى، وكأننا ننظر إليها من على قمة جبل.
أخيرًا، وصلنا إلى الهضبة. كانت هذه الهضبة مرتفعة جدًا، وتطل على المدينة بأكملها. الناس هنا يفضلون بناء المطاعم والمقاهي في مثل هذه الأماكن بسبب الإطلالة الجميلة. كان الجو هادئًا، والهواء منعشًا، وكأننا في عالم آخر.
رأيت مطعمين كانا يقعان على صفحة الجبل، متجاورين، ولكنهما يبدوان مختلفين تمامًا. أحدهما كان مزدحمًا بالزبائن، بينما الآخر كان فارغًا تمامًا. كان المطعم المهجور يُشبه جثةً متحللةً من زمنٍ مضى، تُخفي وراء جدرانها المتشققة قصصًا دفنتها الغبار، بينما المطعم الآخر كان يعج بالحركة والنشاط.
أوقفت السيارة بالقرب من المطعم الفارغ، وخرجنا جميعًا. نظرت إلى المطعم الفارغ، وكانت واجهته باهتة، وكأنها لم تُنظف منذ أشهر. دخلنا إلى الداخل، وكان المكان مظلمًا وخاليًا من أي علامات للحياة. لا طاولات، ولا طعام، ولا زبائن. في الزاوية، جلس الرجل المسنّ كحارسٍ لأطلالٍ لم يعد أحدٌ يذكرها.
اقتربت منه وسألته: "ما الذي حدث هنا؟ لماذا توقفتم عن العمل؟" فأشار بيده إلى سيدة كانت تقف في الظل، وإذا بها زوجته. بدأت أحادثها، وسألتها: "لماذا استسلمتم هكذا؟، لماذا لم تعد تقدّمون خدماتكم؟"
– سألتها بصوتٍ يختلط فيه التعاطف مع التحدّي.
فأجابت بصوتٍ يكسوه الإعياء: "الجار... - المطعم المجاور - استحوذ على كل الزبائن. لم يعد أحد يأتي إلينا، وكنا نخسر الكثير، فقررنا التوقف".
نظرت إليها محاولًا إلهامها بعض الأمل، وقلت: "لماذا تستسلمون؟ الاستسلام خيانةٌ لأنفسكم! أليس من الأجدر أن تحاربوا؟". وفي خضمّ حديثي معها، قطعَ ضجيجٌ مفاجئٌ تركيزي – إذ كان الطفل الصغير الذي كان معي بدأ يلعب ويصدر أصواتًا عالية، مما أثار بعض الضجيج في المكان. كنت أشعر بعدم الارتياح، لكنني كنت مصممًا على فهم ما يجري.
التفاوض من أجل العدالة!
بعد محاولتي إقناع السيدة بأن تصمدوا وتعيدوا فتح المطعم، بدأت أفكر في حل آخر. لماذا لا أزور المطعم المجاور وأتفاوض مع صاحبه؟ قررت أن أذهب إليه وأعرض عليه فكرة توسيع مطعمه ليشمل المطعم الفارغ. دخلت المطعم المجاور، وكان مزدحمًا بالزبائن. اقتربت من صاحب المطعم، وهو رجل في منتصف العمر، يبدو عليه النجاح والثقة.
قلت له: "أنا هنا لأعرض عليك فكرة قد تفيدنا جميعًا. لديك مطعم ناجح، والزبائن يتدفقون عليه. لكن جارك، المطعم الفارغ، يعاني. لماذا لا تضمه إلى مطعمك كملحق إضافي؟ يمكنك استخدامه لتوسيع طاقتك الاستيعابية. نحن سنعطيك هذا المطعم كملحق، وبالمقابل، نتفق على نسبة معينة من الأرباح لكل طاولة تشغلها فيه".
نظر إلي الرجل متفكرًا، ثم قال: "هذه فكرة مثيرة للاهتمام. لدي بالفعل 25 طاولة، ويمكنني زيادة العدد إلى 40 أو 45. لكن ما هي النسبة التي تقترحها؟". أجبت: "أقترح أن تحصل على 70% من الأرباح، ونحصل نحن على 30%".
هزّ رأسه مُتأمّلًا: "فكرة جريئة... لكنّ 70% لي مقابل 30% لهم؟" – ثم أضاف بذهنية التاجر المحنّك: "أنا أتحمّل المخاطرة كاملةً، من موظفين إلى مواد أولية. أقدم الخدمة الكاملة، أما هم فكلّ ما يقدّمونه هو أربعة جدران وطاولات فقط!، أعتقد أن هذه النسبة عادلة للطرفين".
هززت رأسي موافقًا: "إذن نبدأ العمل غدًا؟"
بعد أن وافقنا على النسبة، بدأنا في التخطيط للتفاصيل، فاتفقنا على أن نزور البلدية لتوثيق الاتفاقية، وأن نبدأ العمل رسميًا. شعرت بارتياحٍ غامر، فقد وجدنا حلًا يرضي جميع الأطراف ويعيد الحياة إلى المطعم الفارغ.
الخدمة المجانية والأجر الروحي!
خرجنا من المطعم، وأنا أفكر في كل ما حدث. كان الحلم غريبًا، مليئًا بالرموز والأسئلة التي لم أجد لها إجابات. قررت أن أعود إلى السيارة، لكنني وجدت أن الطريق الذي جئت منه قد اختفى. بدأت أشعر بالقلق، لكن الطفل الصغير أمسك بيدي وقال: "لا تقلق، أنا معك".
نظرت إليه، وكأنه يعرف شيئًا لا أعرفه. ثم فجأة، استيقظت من الحلم. كنت في سريري، والصباح يطل من النافذة. لكن الشعور الغريب الذي تركته الرحلة لم يختفِ. قررت أن أكتب هذه القصة، ربما تكون بداية لشيء أكبر.
بعد أن استيقظت، بقيت أفكر في كل ما حدث في الحلم. لماذا قدمت هذه الخدمة لأشخاص لا أعرفهم؟ هل سأحصل على أجرٍ ما، حتى لو كان مجرد حلم؟
في حياتنا الواقعية، نقدم أحيانًا خدمات مجانية للآخرين دون أن نطلب مقابلًا ماديًا. قد نقدم النصيحة، أو نساعد في حل مشكلة، أو نقدم الدعم المعنوي. ولكن هل هناك أجرٌ روحي أو أخلاقي نكتسبه من هذه الأفعال؟
في الحلم، قدمت خدمة لأصحاب المطعم الفارغ ولصاحب المطعم الناجح. لم أكن أعرفهم، ولم أكن أتوقع أي مقابل. لكنني شعرت بالرضا عندما وجدت حلًا عادلًا يعيد الحياة إلى المطعم الفارغ ويحقق المنفعة للجميع.
هل يُعتبر الخير في الأحلام كالخير في اليقظة؟ قد لا نجد إجابةً قطعية، لكن حلمي علّمني أن العطاءَ نورٌ مزدوجُ الاتجاه: يُضيءُ ظلامَ المتلقي، ويرتدُّ دفئًا إلى روحِ الواهب. حتى في العالم الخياليّ، تظلُّ قيمةُ الفعلِ في نيّته لا في مكانه. فحين نصنعُ نورًا، تتراجعُ عتمةُ ظلالنا الواقعية. وإنْ لم يكُنْ ثمّة ضمانٌ لمكافأة، فهذا هو جوهرَ الأجر الروحي: شعورٌ غامرٌ بأنّ وجودنا - ولو للحظة - أصبحَ أكثرَ اتساعًا وعُمقًا.
في الختام، ذهبَ الحلمُ وبقيَ الأثر. تبيّنَ لي أن الخيرَ يتخطى حدودَ الزمان، وأننا لا نصنعُ الخيرَ مقابلَ مكافأةٍ ملموسة، بل لأنّنا - وبطريقةٍ ما - نُصلحُ جزءًا من أنفسنا عندما نُصلحُ للآخرين. تلك هي المعادلةُ الخالدة: كلّما منحنا بلا حساب، اكتشفنا أنّ السعادةَ الحقيقيةَ كانت مخبأةً في زوايا ذلك العطاء. فماذا يهمُّ بعد ذلك إن كان الفعل في حلمٍ أم في دنيا الواقع، إذا كان كلاهما يزرعُ نورًا؟
جهاد غريب
يونيو 2025