حين يتصالح العقل مع العجز! بقلم ندى يزوغ
في لحظةٍ ما من المسير الذهني، يتعب الإنسان من محاولات الفهم، من عناد الأسئلة، ومن جحود الأجوبة.!
يسقط الفكر أسيرًا لعبث التكرار، ويبدو وكأن كل محاولة لاختراق اللامرئي تُقابل بجدارٍ صلد من الغموض. من هنا تبدأ التجربة الوجودية في أعمق صورها: الانسحاب من السؤال، لا هربًا، بل بحثًا عن صيغة جديدة للنجاة.
اعتقد العقلانيون، كديكارت، أن الفكر هو مرآة الوجود: "أنا أفكر إذن أنا موجود". غير أن هذا التفكير الذي وهب الوجود معناه، صار عبئًا حين فقد البوصلة. فالعقل حين ينهك في تعقّب السبب والغاية، يُحوّل الحياة إلى مشروع تفسير لا ينتهي. يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: "القلق هو كشف الوجود عن هشاشته"، وما القلق إلا ابن شرعي لفائض التفكير.
من منظور المدرسة الوجودية، وتحديدًا عند جان بول سارتر، فإن الإنسان محكوم عليه بالحرية، أي أنه لا يملك خيارًا سوى أن يختار. هذه الحرية التي قد يراها العقلُ انتصارًا، تتحوّل في الواقع إلى عبء وجودي.
فالاختيار يستلزم تحمّل العواقب، وتبرير الذات باستمرار.
إن هذا الصراع المستنزف بين القلب والعقل، بين ما يجب وما يُراد، يخلق مأزقًا لا ينقذه إلا الصمت أحيانًا.
بينما يعتبر ديكارت أن الشك بداية اليقين، يذهب أبيقور إلى أن التحرر من الخوف هو جوهر السعادة. وهنا يظهر تباينٌ جوهري: فالعقل قد يهب اليقين، لكنه لا يهب الطمأنينة. وعندما يبلغ العقل حدوده، تبدأ الروح تطلب السكون.
وهنا يمكن استحضار فكرة بوذا عن الصمت كوسيلة للتعالي عن الصراع الداخلي، فربما السلام ليس نتيجة حلّ، بل نتيجة تخلٍّ.
و من التشظي إلى التماسك تصبح الذات كساحة صراع ، إذ يقول نيتشه: "من لديه سبب يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمّل كل شيء"، غير أن من لا يجد هذا السبب، يُثقل كاهله العبث. الصراع بين العقل العارف والقلب التائه يجعل الإنسان ساحةً مفتوحة للعراك. لكن حين يتوقف السؤال، تبدأ الذات في إعادة ترتيب أوراقها. الصمت هنا لا يعني العجز، بل يعني إعادة تعريف الحاجة للمعنى.
ختاما ليست كل الأسئلة مدخلًا للحقيقة، ولا كل الأجوبة شفاءً. في لحظة ما، لا تعود الإجابات تهمّ، لأن السؤال ذاته لم يعد يملك قوة الاختراق.
لذلك فإن اعتزال التفكير هنا ليس هروبًا من الحياة، بل تصالحًا مع محدودية الفهم. هي دعوة إلى الحياة البسيطة، تلك التي لا تُقاس بكثافة التفكير بل بخفة العيش.
من هذا الصمت، تتولد الحكمة التالية : (بعض المعارك لا تُخاض، وبعض الطرق لا تُسلك، وبعض الأجوبة تكمن في التجاوز لا في التحليل. لعل المغزى الأعمق هو أن ننجو بأنفسنا، لا أن ننتصر عليها، فليست كل معركة فكرية تستحق الخوض، لأن العقل أداة، لا غاية.
• و في التخلّي حكمة، وفي الصمت شجاعة وجودية.
• باختصار إن النجاة تكمن في القبول، لا في الفهم.
فما الحياة إلا سؤالٌ نختار أحيانًا ألا نُجيب عنه.