بعض من عرفت
الجزء الثاني
(14)
لم يغزُ قوما ولم ينهض الى بلدٍتَقَدّمَـــــــــهُ جيْــــشٌ منالــــرّعب
ابوتمـــام
الأستاذ عبدالحميد ( مُعلّم العربي)
وانا في السنه الثانيه الأبتدائيه , في المدرسه العزيزيه , وفي عصر كان يقوم على التعليم فيه معلمون من الشام بمختلف جغرافيتها , اغلبهم من فلسطيني وا الأردن , استقدمتهم بلادي للنهوض بالتعليم , في وقت كنا نعاني نقص المعلمين الوطنيين , وخلافنا السياسي مع مصر حرمنا من تنويع المعلمين الا من الشام برقعتها الوسعه وبلدانهاالمختلفه وكان نصيب الفلسطينيين الأوفر , تعاطفا مع قضية العرب الأولى وتقديرا لظرفهم الأنساني .
فتحنا اعينناعليهم يقودون العلم خاصة الصفوف الأولى الدراسيه.
كنت لاأزال في مرحلة الدراسه المبكره , وبرغم كثرة المدارس التي تقلبت عليها ,الا ان المعلمون لم يتبدلوا , هم نفس الجنسيه , واللهجه , والبياض , والأسلوب احيانا .
من هؤلاء لازلت اذكر الى اليوم عبد الحميد , مدرس ( العربي ) هكذا نسميها ويشمل تدريسه ( القراءه , والخط , والأملاء ) من كتاب ( المطالعه ).
وللأسف ان هذا المعلم يحمل بين جوانحه حقدا وضغينه وكرها لعل مصدره ماوصلت اليه حاله من هجر بلاده وضياع حقوق لايد لنا فيها , وكنا اطفالا لانعي من امر الدنيا شيئا ولايبعد فكرنا عن ماهو حولنا , كان يعامل من يخطيء في القراءة اوالكتابه حتى لو كان ميل بسيط عن السطر , يعامله بطريقة انتقاميه لاتمت للتعليم ولاللخلق الأنساني بأي صِلـه !
وللأسف لم يكن احد من التلاميذ يشكو لأهله غرابة تصرفه , وعلوّ عقابه عن المألوف , كنا في زمن يقدس المعلم ويراه مجتمعنا كمايرى البعض اليوم المشايخ !
وصل الأمر بهذا المعلم ( الذي تتبرأ منه هذهالمهنه العظيمه ) الى انه كان يفتح فم الطالب الكسلان في مادته ويبصق فيه !
كان يأمرالطالب ان يقف ووجهه الى الجدار رافعا يديه واحدى قدميه عن الأرض , والويل له إن انزلها , ويستمر الوقوف طوال الحصه , وإن حصل وتحرك الطالب يمسكه من خلف رقبتهويضرب برأسه زجاج النافذه !
لاأريد الأسترسال اكثر في الوان عقابه وتفننـه في التسليه على تلاميذ ابرياءجاءوا للعلم فوجدوا انفسهم بمعتقل !احمد الله واشكر فضله اني كنت من الطلاب الجيدين في مادة ( العربي) فلم يطالني من انتقامه مارأيته يحدث مع بعض اقراني .
ويشاء الله بعد سنوات طويله ان اصادف هذا المخلوق الغريب يوما وانا في السوق ابيع الكتب والمجلات , فقد رأيته يقف امام ( مبسطي الصغير ) ويطيل النظر في وجهي , ثم يسألني إن كنت درست يوما في مدرسة( العزيزيه )؟
وبعد صمت قليل تذكرت المدرسه وأجبت بنعم؟
فقام بتعريفي بنفسه وانه كان يدرسني مادةا لعربي .
شريط سريع كفلاش الكاميرا صافح ذاكرتي فتذكرته, وهل مثله يمكن ان انساه , لكن كثرة الأحداث وتقادمها تلتحف احيانا بعض الصور .
قلت له الازلت هنا لم تسافر ؟
قال كمن يستخف بسؤالي : واين اذهب وبلدي محتل؟
وللحقيقه , شعرت بامتعاض حين رأيته , نفس الوجه القاسي الحاقد رغم تكالب السنون وخطوط العمر, تمنيت ان لم اراه , حين تذكرت افعاله بالتلاميذ , فقد كشف غطاء قذر كنت قد واريتهالزمن المنصرم , لكن تأبى الايام الا ان تعيد بَكْراتها صفحات مهترئه لأيام قاسيه.
اهملتهحين جاء احدهم يسألني عن كتاب , كنت ارغب جادا ان يشعر باحتقاري وركلي لــه , ولو بالأهمال .
وقف قليلا يقلّب نواظره اللئيمه بيني وبين الكتب المفروشة فوق الرصيف , ثم جرجر قدميه وغادر , لاحقته عيناي وهو يبتعد متثاقلا بفعل الشيخوخه .
كم فياعمارنا من شخوص نرغب وجودهم معنا دوما , وكم من وجوه نتمنى ان يسترها القبر.
الى اللقاء