"شبح في الزمان" بقلم المبدعة الصغيرة سماح كرويت
كنت دائما أراقب "نادر" من بعيد. كان زميلا في نفس المدرسة، لكنه في قسم مختلف، وله عيون لامعة وأسلوب غريب في الحديث. كلما تلاقت نظراتنا عن غير قصد في الممرات أو في الساحة، كان قلبي يخفق. لم يكن يعرف عن مشاعري شيء، لكنني كنت أرى فيه شيئًا غريبًا، كأنه ليس من هذا العالم. بدأت ألاحظ أشياء غريبة. في كل مرة كنتُ أكتب له رسالة على إنستغرام، كان يجيبني بسرور، ولكن دائمًا هناك شيء غير عادي في ردوده. كان أحيانًا يجيبني قبل أن أرسل الرسالة، وأحيانًا كان يرسل لي نصوصًا أو مقاطع غريبة عن الزمان والمكان، تتحدث عن عوالم موازية وأشياء لم أستطع فهمها. في البداية، ظننتُ أنها مجرد خيالات، لكن مع مرور الوقت، أصبح كل شيء أكثر وضوحًا وغرابة. خلال خمسة أشهر من المحادثات المتواصلة، أصبح له دور أساسي في حياتي. نادر لم يكن فقط يشاركني تفاصيل يومه، بل كان يشجعني، يخبرني عن أحلامه وأسراره. لكن مع مرور الوقت، بدأت أشعر أن هناك شيئًا غريبًا. أحيانًا، كانت رسائله تبدو غير مكتملة أو تحتوي على كلمات تائهة غير مفهومة، وكأن شخصًا آخر كان يكتبها بدلاً منه. في أحد الأيام، قررت أن أعترف له بحبي. كتبت له رسالة طويلة مليئة بالمشاعر التي أخفيتها عن الجميع، موجهةً إليه بكل شجاعة. كنتُ على وشك أن أخبره بكل ما في داخلي، وأطلب منه أن يشعر بما كنت أشعر به. لكن الرد جاء مغايرًا تمامًا لما توقعت. "سماح، أنا أعتبركِ مثل أختي. أنتِ غالية علي، لكن لا أرى بيننا أي شيء أكثر من ذلك." كانت كلمات نادر قاسية، لكنها كانت أيضًا غريبة. شعرت بشيء غير طبيعي في رده. هل كان يعبر عن مشاعره حقًا؟ أم أن هناك شيئًا آخر وراء كلماته؟ أغلقت الهاتف، وركضت نحو الفصل، لكن في تلك اللحظة، رن هاتفي مجددًا. كانت رسالة جديدة، ولم تكن من نادر. "أنتِ تظنين أنه نادر، أليس كذلك؟ أنتِ تعيشين في وهم." قلبتني هذه الرسالة. كيف؟ ماذا يعني هذا؟ كيف يعرف شخص آخر عن مشاعري؟ ولماذا جاء هذا الرد الآن؟ فجأة، بدأ الهاتف يشتغل بشكل غريب. الرسائل كانت تتنقل من محادثتي مع نادر إلى محادثات أخرى لم أتمكن من فهمها. كانت هناك كلمات مخيفة تظهر مثل: "أنتِ لستِ الوحيدة في هذا العالم." "كلما اقتربتِ من الحقيقة، كلما كانت النهاية أكثر فظاعة." في اليوم التالي، شعرت أن شيئًا غريبًا يحدث في المدرسة. رأيته، نعم، كان نادر، ولكن ليس كما رأيته من قبل. كان يبتسم ابتسامة غريبة في الممر، وعيناه كانتا تحملان شيئًا مظلمًا. حاولت التحدث إليه، لكن تجاهلني وكأنني لم أكن هناك. بدأت أشعر بشيء من الخوف، شيئًا غير عادي. ماذا لو لم يكن نادر كما ظننت؟ ماذا لو كان هناك شيء آخر وراء هذه الرسائل؟ كان يرسل لي أشياء غريبة، إشارات مختلطة عن أماكن، أوقات، وأحداث لم تحدث بعد. ثم جاء اليوم الذي غيّر كل شيء. في إحدى الليالي، وصلتني رسالة غريبة على إنستغرام. كانت مكتوبة بشكل متسارع وكأنها جاءت في لحظة: "إذا أردتِ أن تعرفي الحقيقة، اذهبي إلى المكان الذي التقيتِ فيه أول مرة." لم تترددت، كنتُ أعرف المكان الذي يقصده: المكتبة القديمة في الزاوية البعيدة من المدرسة. هناك، في ذلك المكان المهجور بين رفوف الكتب، التقيتُ به لأول مرة رغم أنه لم يتحدث لي مباشرة. عندما دخلت المكتبة، كان المكان مظلمًا. كان هناك ضوء خافت ينبعث من الزاوية. وعندما اقتربت، وجدته يقف هناك، ولكن ليس كما عهدته. كان يطفو في الهواء، عيونه متوهجة، وصوته يرن في أذني: "أنتِ لستِ جزءًا من هذه الحياة. كنتِ دائمًا جزءًا من حلم." شعرت بأن قلبي توقف عن النبض. ماذا يعني بهذا؟ هل كان يضحك علي طوال هذه الفترة؟ هل كان يراها مجرد لعبة؟ هل أنا فعلاً جزء من شيء غير حقيقي؟ في تلك اللحظة، بدأ المكان من حولي يتحول. الكتب على الرفوف أصبحت تتحرك، والجدران بدأت تتلاشى، وكأنها تغرق في عالم آخر. أصبح كل شيء ضبابيًا، وكلما حاولت أن أتحدث، كان صوتي يتلاشى، وكأن الزمان والمكان كلهما ينهاران حولي. "سماح، أنتِ تعرفين الآن. لا يوجد شيء حقيقي. كل ما تراهين هو وهم. لا يمكنني أن أكون معكِ لأنني لستَ هنا. أنا مجرد شبح في الزمان." شعرت بشيء ثقيل يسقط في داخلي. مشاعري كانت مجرد خيوط رقيقة، خيوط وهمية اختلقتها نفسي لأهرب من الواقع. كنت أظن أنني أحببته، ولكن الحقيقة كانت أنني كنت أبحث عن شيء لا يمكن أن يكون لي. كنت أبحث عن الحب في مكان ليس موجودًا. "اذهبي، سماح." همس نادر قبل أن تختفي صورته تمامًا. "لا تحاولي العودة، لأنكِ ستكونين عالقة هنا، في عالمكِ." وفي اللحظة التي اختفى فيها، شعرت بأنني عدت إلى نفسي. اختفت المكتبة، واختفى كل شيء. كنت في مكانٍ آخر، في غرفتي، حيث الضوء يتسلل عبر النوافذ. الهاتف كان في يدي، وكل شيء كما كان عليه. لكنني كنت أعلم الآن أنني يجب أن أعيش في العالم الذي خلقت فيه. عالم واقعي، بعيد عن الأوهام التي نسجتها حول نادر. نظرت إلى نافذتي، حيث السماء كانت تغرق في الظلام، وقلت في نفسي: لقد كنت الحلم، والآن أريد أن أعيش الحياة.