النَّعام
تحسس الأب علبة الثقاب . أشعل شمعة - علها تضئ - تفقد ابنته التي تناومت عند سماع خطاه تظنه آخر .
قرع نعله يرعدها. اقترب منها؛ انتفضت أكثر. لثمها؛ فتعلقت به.
أخذت نفسا عميقا، واسترسلت في إخراجه. ضمها بقواه المتداعية، وهي أحكمت العناق بيدين صغيرتين. ارتجفت بين يديه؛ فداعب بذقنه رأسها؛ ابتسمت.
نظرت إليه :
- إلى متى يا أبي ؟!
- طأطأ رأسه. عبرت عيناه. وارتضى الصمت جوابا.
- أدركت ذلك؛ فداعبته بما كان يهدهدها به عندما تشكو الخوف، ولم تكف حتى ردد معها بصوت شابه الحزن والدموع :
لا تخافي يا فتاتي إن يوما سوف ياتي
تنعم فيه بلادي وغدا يوم جديد
يخبو ضوء الشمعة شيئا فشيئا .
- انتفض قائما. اتجه إلى الموقد. من بعيد ينظر إليها بعيون دامعة.
- ترمقه ذاهلة :
أعلم أن ليس بالبيت شيء فماذا يصنع؟!
انزوت عيناها قليلا عنه، ثم تبسمت :
الآن أدركت.
نسى أبي القصة التي قصَّها علينا.
العجوز التي أوهمت صغارها بإعداد طعام لهم حتى غلبهم النوم، أوتناسى.
وجهت عينيها تجاه الباب المحكم الوصد؛ استجابة لخاطر ألح عليها.
انتظرت طويلا حتى غلبها اليأس.
يتابع النظرإليها.
عبثا يحاول أن يستوقف ما أسالته - رغما عنه - عيناه.
تبادله النظر. لم يعد أمامي سوى مواصلة القصة.
نظرت إلى الشمعة ودموعها تشق على وجهها ممرا تكاد تذيب جلدها من شدة ملوحتها والتهابها.
تقطر هي الأخرى أمواهها بغزارة.
- لا. لا تفعلي فذلك يدني من أجلك. رجاء أعينيني.
- يتماوج اللهب.
- تحاصره بكفييها الصغيرين. أرجوك تماسكي للنهاية. أنت آخر ما لدينا. بتنهيدة متقطعة... كادت أن تنطفئ.
مازلت تنظر إليها. تطمئن لحياتها... حتى غلبها النوم.
أسرع إليها دامعا منتفضا. خفقان قلبه يدوي.
يقبَّلها . يمسح جاهدا بيده دموعا مازالت تصاحب وجهها.
لم يكن يعلم أن الدمع الجاري على وجنتيها من معينه هو.
لفظت الشمعة أنفاسها الأخيرة بعدما حاولت أن تهدهد أحلام الصغيرة.
لكنها لم تنجح ...