قلتِ انتبه لأمنا .. كان المساء صغيراً لم تتكاثف لحيته بعد .. قرأ لتوه المعوذات .. ونفث على نفسه بالسلام .. يترقب كرة القمر ليلهو بها في ملعب السماء ، الوقت كان ملك يدينا .. كلما قضمنا ساعةً .. تناولنا أخرى ، والمسافة بيننا وطن .. شَعب الكلمات تحرر من عبودية الكتمان .. أرضه صدر حنون ، إن المسافات حين تنجو من شكوك النفوس .. تمتلئ ورداً وزهور .
بيتنا كان مدينة .. شجرة البزروميا تحتضن الناصية .. قد شذبتها السنون بهيئة قلبٍ أخضرٍ كبير .. تجلس تحته أمنا .. تحكي عن جيراننا القدامى .. وكيف أنهم مضوا ولم يخبروها ، الميدان تنبت فيه الضحكات .. الصرخات .. الأقدام الصغيرة التي تُسقط الأكواب وتترقب التأنيب ، الجدار يتكئ على جبين الضوء ويربت على شعره ، إبنتك الصغرى ترسم في كراستها شوارع في عتمة المساء .. ومنازل يطل من فرجتها قمران .. هي تقول (( قمرٌ يظهر وراء بيتنا .. ومع سيارتنا يسير قمرٌ آخر )) .
الهواء يتناسل عطراً من زهر مشيتها .. كانت إبنتك الكبرى قد صنعت لنا الشاي .. الأكواب تنضح براءة كروحها .. ارتشفتُ منها حيرتها من طبائع البشر وهي تتلوى كأقدارنا .. ارتشفتُ حقيبتها وهي تدس فيه اليوم بعد اليوم تبنى فكرها وحشمتها .. ارتشفتُ آمالها وقد انتفخت كالضوء .. كأبراج مدينتنا .. كالعيون المندهشة ، إننا نقضي ليالينا نرتب أحلامنا ... وللموت ترتيب آخر .
كان وجهكِ قصة سجود .. قصيدة من نور .. حكاية الربيع والمطر ، كان حنوناً يتلمس عثرات أسرتنا ويمد عينيه يتلقف فيها الدموع .. يملأ أقداحنا بالزيارات فلا ينضب فيها الضحك والسرور ، أعجب لكِ .. كل هذه السنون .. ولم تزل لك روح طفلة .. كدتُ أن استعيرها منكِ .. لكن خشيتً أن تفعلي .. وأتورط أنا مع هؤلاء البشر .
الآن نامت المرايا .. والأرائك اغتصبها الحزن .. وشفاهي عاقر ما عادت تنجب الأبناء ، حدثني يا زمن .. عن الريح كيف تعاشر الرمل وتتواري لتضحك طويلاً خلف الجبل .. عن أرصفة حمقى تمضغ السهر لتفرد جسدها تحت أقدام البشر ، عن الضوء كيف يكسره الزجاج فيخرج مستقيماً ولا يبالي ، تعبتُ يا زمن .. لم تستأذني الطرقات حين رحلتْ وتركتني بلا أقدام .. المساء لم يُراع حرمتي وهو يقتلع فمي ويلوثه بالبكاء .. ما عدتُ أطلب فرحاً .. ما عدتُ أترقب حلماً .. كل ما أبتغيه .. أن تتفلت الأيام من يدي .. ولا تحترق أصابعي .
بعد اليوم .. ستكذب الشمس وتدعي أنها تزورنا طوال الشتاء لتدفئتنا .. ستنام الذئاب في حِجر الأيام وتنهش أحلامها .. سأصحو لأجد نجمة مقتولة في طبقي بعدما تآمر عليها أعداء المساء ، أحتاج أن أنظف ذاكرتي لأحشوها بذكريات جديدة ومريرة .. تعوزني مصائب صغيرة أتلهى بها .. أن ابتكر طريقة أخرى للبكاء .. كأن اجمع كل مآسي العمر .. وأجلس بينها .. وأكتب عن الفرح .