|
معرفات التواصل |
![]() |
|
أبعاد النثر الأدبي بِالْلُغَةِ ، لا يُتَرْجِمُ أرْوَاحُنَا سِوَانَا . |
|
أدوات الموضوع
![]() |
انواع عرض الموضوع
![]() |
|
![]() |
#1 |
|
![]() حُـفـاة فِي هَذا الهُراءِ المُسمّى حياةً ! كُنّا ثمانيةَ أفواهٍ , ثمانيةَ ثقوبٍ نَتحرّكُ في دائرةٍ نصفُ قطرِهَا فقرٌ والنّصفُ الآخرُ حِرمانٌ . هل أرْهقَنَا أبِي، أمْ أرهَقْنَاهُ ! لا أدري أيُّنا أشْقَى ! أبِي ، أحدُ الحُفاةِ ، تأرْصفَ كَثيراً وهُو يبيعُ الجرائدَ علَى بَسْطةِ الحَياةِ , طوى حصيرة عُمرِه على رصيف إعتاد قدميه , كان كل ليلة يجُرُّ الطّمَأنينةَ مِن قَرنَيْها , يشُدّها لِتتعرّفَ عَليْنا , ولَكنّها كانتْ تَنأى بنفسْها عنْ بيتٍ تسكنُهُ الرُّطوبَةُ , أبوابه مُخلّعة ونوافذه مُغطاة بأكياس النايلون . لاَ مفرَّ يا أبِي لا مَفرَّ, الحياةُ تنصِبُ لنَا الفِخاخَ وتُغلِق في وَجْهِنا الأبوابَ، فَلا غَرابةَ أن نَكونَ على أُهبةِ الغرقِ دائماً كمنْ يركبُ لوح ركمجةً مَكسورةً في أمواجٍ عاتيةٍ ! وُجودُنا جميعاً في غرفةٍ واحدةٍ يفاقمُ كثرتنَا . أكانَ لِزاماً أنْ نكونَ ؟! أكانَ صَواباً هَذا الاحْتكاكُ بينَ هيكلَينِ عَظمِيَّينِ ؟ النَّحسُ رَافَقنا كَثؤلولٍ كبيرٍ لازمَ أنفَ أبي حتى وفاتِه , كانَ فقرُنا بِلا ذِمّةٍ، كأنّنا مُجردُ أثوابٍ رَثّةٍ تنبِضُ في الفراغِ، وتعبَثُ بنا الظروفُ عبثَ الريحِ بالرمالِ ! أمّي التِي يَستيقظُ لِسانُها عَلى كلِّ الأدعيةِ وآياتِ الصبرِ.. كانتْ تقرأُ عليْنا بِهدوءٍ مُستعارٍ : " إنَّ معَ العُسرِ يُسراً " ولَكِنّنا لمْ نرَ معَ عُسرنَا إلاّ عُسراً , ولم يُوَلِّدْ فقرُنا إلا فقراً.. علَى الأرجحِ كَبِرنَا على غفْلةٍ منَ الموتِ ! طالمَا اسْتدعَتنِي لأُدخِلَ لهَا الخيطَ فِي ثُقبِ الإبْرةِ، تُرى كمْ خَيْطاً لزمَنَا لنَرْفُو ثوبَ العِوَزِ، ونُقطّبَ جُرحَ الفاقةِ ؟ كمْ إبرةً ؟ صوتُ " اليَرغولِ " ترفٌ متاحٌ ليرافقَ قِلة حيلَتِها, ويَقهرُنِي منظرُ عَينَيْها عندَما تَقلقُ أو تدمَعُ , أضُمّهَا وأخبرُهَا : لاَ يَهُمّكِ يَمّة , عِندمَا أكبرُ سأزرَعُ لكِ مِلحاً وكازاً وسُكَّراً . وقبل أن تدب الحياة صباحاً , بل قبل أرغفة المدرسة وقبل أصوات الباعة وأبواق السيارات كنتُ أهْرع إلَى الشّوارعِ حاملةً عُمُرَ الحاديةَ عشرَ وساقين مقوسين , يَصحَبنِي أخِي الذِي يَصغُرني بِشمْعتينِ , نُوقظُ الأزقة ونُفزعُ القططَ النائِمَةَ في الحَاوياتِ , فتُدهشُنا تلك النّفَايات التي أصحابها لهُمْ وجوهٌ مكتنزةٌ وظِلالٌ مُنتفِخةٌ , حتماً فِي هذا الكونِ بشرٌ يتناولُونَ أكثرَ منْ وجبةٍ في اليومِ ! كثيراً مَا كانتْ يدِي الصغيرةُ تَعْبثُ ببقايَا جيفَةً دونَ أن يَعلَقَ فِي صنّارَةِ أصابعِي شيءٌ , لم أتأفّفْ يَوماً مِن الرّائحَةِ ، كانتْ تُشبهُ روائحَ اعْتدنَاها في بَيتنا أو صَفِيحِنا المُعلّبِ . كنتُ علَى يقينٍ أن اللهَ سيغفرُ لي , فَعلَى الرغمِ منْ كلِّ مَا كنتُ أسرقُهُ مِن الحاوياتِ لَمْ أحْظَ يوماً باسْتدارَةِ رغيفٍ ولا بمُحيّا وجبةٍ ! لطالمَا أقسمتُ أنّني لنْ أعودَ لزيارةِ مَكبِّ النّفاياتِ , لكني كنتُ أنكثُ قسمِي كلّ يومٍ وأجهّزُ نفْسِي لإطعامِ عشرةِ مساكينَ , نحنُ و والدَانا ! . في هذه الحياة المستعملة تنازلتُ مُبكّراً عن الأحلامِ , رسمتُ لهَا أجنحةً فطارتْ بعيداً ولم تعُدْ , الأحلامُ مِثلنَا تحتاجُ إلى الخُبزِ والخبزُ شحيحٌ ! لمْ تفكرِ الدّنيَا مرّةً واحدةً بأنْ تمْسحَ بِيدِها علَى رُؤوسِنا , كانتْ هُناكَ مآذنُ شاهقةٌ , وسماءٌ واسعةٌ وليالٍ صافيةٌ ونحنُ بكلّ عكَرِنا وعِوزنا ! كمْ أنتِ متناقِضَةٌ أيّتُها الحياةُ ! أراوِغُ رُوتينَ الخُبز والشّايِ, وأفكّرُ برسمِ غَمّازَةٍ أوِ اثنَتيْنِ علَى وُجوهِ إخْوتِي وأتعمّدُ مُفاجأتهُمْ بنفْحَةٍ منَ الرّفاهِيّةِ.. أُريقُ ماء وجهي و أقصدُ الجزارَ , أتَسَمّرُ طَويلاً علَى بابِهِ , أتصبّبُ ذُلاً , ثُم أطلبُ منهُ عِظاماً للكلابِ "عِظاماً تَكْفي لثمانِيةِ كلابٍ" لمْ يستشرْ أبي أحداً في عَددِهِمْ . يَا اللهُ , عَظّمْ أجْرَنا فِينا , فقدْ مِتنَا بمَا يَكفِي لنعِيشَ . أيتُهَا الحَياةُ , لَسنَا سَيّئينَ كمَا تَظُنّينَ , تَعالَيْ , اِقترِبِي بِمقدارِ فَرسخٍ , أو نصفِ شبرٍ , تعالَيْ اجْمعِي مَا انْكسرَ فِينا , واعْتذرِي لأمّي كيْ أحبَّكِ . ____________________________ نـُشر هذا النص في جريدة الرأي الاردنية وايضاً في جريدة الدستور http://www.addustour.com/ViewTopic.a..._id397414.htm# http://alrai.com/article/499049.html http://www.alrai.com/uploads/pdf_pag...ea13f45442.pdf
|
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة
|