قرأت عبارة في أحدى القنوات :
( "قَلِقٌ على رفاهية اللحظة من أن يدنّسها وعيٌ مفاجئ.)
مما جعل هذا المقال يولد للنور ...
الوعي المفاجئ:
( ومضة الحقيقة في ظلام الزيف )
في لحظة ما، بلا مقدّمات واضحة أو تمهيد عقلاني، يحدث ما يُشبه الزلزال داخل الإنسان. إنها لحظة نادرة، بل شبه مقدّسة، تُعرف بـ الوعي المفاجئ. ليست صحوة بالمعنى العادي، وليست تطورًا تدريجيًا، بل هي ومضة شديدة، كأن العقل اصطدم بنور الحقيقة فجأة، فانكشفت أمامه شبكة الأكاذيب التي تربّى عليها، أو ظلّ يردّدها وهو يظنها “الطبيعي”، “المألوف”، أو “الصحيح”.
سياسيًا: الوعي كتهديد للمنظومة
منظومات الحكم لا تخشى الاحتجاج بقدر ما تخشى الوعي. الاحتجاج يمكن قمعه بالهراوات، أما الوعي فهو فيروس لا يُرى، ينتقل من عقل إلى عقل، يفضح الزيف البنيوي في أسس السلطة. حين يُدرك المواطن فجأة أن “القانون” وُضع لخدمته ثم أُعيد تشكيله ليقمعه، وأن الإعلام لا يُخاطب عقله بل يُنوّمه، تنكسر الهيبة. لا يعود المواطن خائفًا، بل ساخرًا. وهذا أسوأ ما يمكن أن يواجهه النظام: شعب لا يأخذ السلطة على محمل الجد.
الوعي المفاجئ في السياسة يُشبه لحظة إدراك العبد أنه ليس أقل شأنًا من سيده، وأن السلاسل نفسية قبل أن تكون معدنية. هذه اللحظة لا تحتاج إلى كتب فلسفة، بل قد يولّدها تعليق في مقطع فيديو، نظرة في وجه رجل مسحوق، أو لحظة تأمل صامت في نشرة أخبار فقدت كل معنى.
فلسفيًا: من ظلال الكهف إلى وهج الخارج
في الفلسفة، يمكن مقارنة الوعي المفاجئ بالخروج الأفلاطوني من الكهف. الإنسان، وقد تعوّد على ظلالٍ تتحرك على الجدران، يظنها الواقع، وفجأة يكتشف أن هناك نورًا بالخارج، وأن كل ما رآه كان وهمًا. لكن الفارق هنا أن الخروج لا يكون دائمًا طوعيًا. في كثير من الأحيان، يُقذف الإنسان خارج كهفه جرّاء صدمة: خيانة، موت، انهيار، أو حتى لحظة حب صادقة وسط عالم مزيّف.
الوعي المفاجئ لا يُعطيك إجابات، بل يُدمّر الأسئلة القديمة. يُربكك، يخلخل استقرارك الداخلي، يُحرّضك على إعادة بناء كل شيء من جديد: الله، الوطن، الأخلاق، نفسك. وهنا تأتي لحظة فلسفية خطيرة: هل ستحاول العودة إلى الكهف، إلى دفء الأوهام؟ أم أنك ستغامر بتأسيس ذاتك على أرض أكثر وعورة، ولكن أكثر صدقًا؟
الوعي المفاجئ والاغتراب
المفارقة المؤلمة أن الوعي لا يُكافأ بالقبول، بل بالاغتراب. من يعي، غالبًا ما يُطرد من الجماعة. لأن الجماعة تعيش على إيقاع العادة، والوعي يفكّك هذه العادة. لا أحد يُحبّ من يُخبره أن حياته خطأ. ولهذا، يظلّ الوعي المفاجئ لحظة فردية بامتياز، تَحرّرية، ولكن موحشة.
الواعي هو المنفي في حضن الجماعة، هو الذي يرى ما لا يُرى، فيبدو كمن يهذي. لكن التاريخ يُخبرنا أن كل فكرة عظيمة بدأت بهذه اللحظة: لحظة فرد رأى النور قبل الجميع.
ختامًا: هل يمكننا الاستعداد للوعي؟
ربما لا. لأنه لا يُصنع، بل يحدث. لكنه، حين يحدث، يُغيّر الإنسان إلى الأبد. يُخرجه من قفص الطمأنينة، ويجعله يُدرك أن الحقيقة ليست مريحة، لكنها ضرورية. وأن الحياة التي تُعاش في كذب مُريح، ليست حياة، بل نوم طويل.
الوعي المفاجئ هو لحظة الانفجار الداخلي في وجه كل ما اعتبرناه طبيعيًا. وهو، بهذا المعنى، ليس وعيًا فحسب، بل ثورة عقلية كاملة. ومن لا ينجو من هذه الثورة، قد يُفضل العودة إلى النوم. أما من ينجو، فهو يولد من جديد ولكن هذه المرة، بعينين مفتوحتين تمامًا.