حتى و إِن كُنتُ في غُرفةٍ مِن نارٍ ، كيفَ أُدفأُ و الصقيعُ ينبتُ في صَدري .؟!
أشعرُ بِالبرد ! و مع أن بلادي هذه السنةَ لم تبرُد كثيراً و لم يباغِتها البردُ بما لم تتوقع ، إلّا أنني أشعرُ بخلافِ ذلك ، رُبما كان افتقادي للدفء الذي اعتدتُه برفقتكَ سنواتٍ طويلة و على الدوام في صيفٍ أو شتاء هو السبب ! أحياناً و حين أفكرُ في هذا الأمر أشعرُ و كأنني حمامةٌ أُنتُزِع ريشُها من بعدك فأصبحت من ذواتِ الدمِ البارد رغماً عنها ، فَأطرافي باردةٌ على الدوامِ و المدفأةُ تُحرق شعيراتِ وجهي قبل أَن تدفأَ أطرافي و قبل أَن تذوبَ جبالُ الثلجِ المُتراكِمة في صدري . صدري الذي ينبُت في أرضه الصقيع و تتلبدُ في سمائِه غيومُ الحنينِ إليك حتى إِذا ما تصادمت ذَرَأَ تصادُمها شحنةً تهُزُ قلبي لقوتِها فَأرتعِد و أتألم و يسقُط على إِثر ذلك شيئٌ من دموعي ببطئٍ شديدِ كقطراتٍ أتعبها البرد و قاربت على التجمُد فانحدرت بِرفقٍ و تكاسل . لا أستاءُ حين ينعتني كل من حولي بالعجوز فلطالما شعرتُ بأنني عجوزٌ في غيابك أياماً قليلة ، فكيفَ بهذا الغياب المؤبد الذي أنتزع الدفء من قلبي انتزاعاً .. أتُراك تعلمُ أني أشعرُ الآن بالبردِ و لم يغْنِني دفءُ العالم أجمع عن دفئك .؟! أتذكرُ كيف أني كُنت أستغني عن كل المَعاطف التي تُزوِدُني بها أمي فيما مضى و أكتفي بحرارة جسدِك مِعطفاً لي ، و كذلك أتذكَرُ اصطحابك لي إلى البحر أوّلَ الشتاء حيثُ الهواء باردٌ و مؤذٍ كما تقول أمي : لا يخدعنكم هذا الهواء اللطيف فهو أول مُسببات المرض .. هذا الهواء الذي كان يزيدني بك ارتباطا و حباً و دفئاً برفقتك أصبحَ الآن لا يُشعرني إلّا بمقدم المرض حقاً من دونك ، كانت أُمي صادقةً فيما ذهبتْ إليهِ و لكِنها لم تكُن تعلم أَن حصانةً مؤقتةً من المرض كانت تُلازمني مُلازمة الظِل للجسد و مُلازمة الإثم للخطيئة !
تجوالنا بصحبة المطر و جُلوسنا ساعاتٍ طويلة تحته ، أتذكرُ كل ذلك جيدا ! أتذكَرُ كيف بُحتُ لك يوماً في غمرةِ استمتاعنا به بِشيء من خاطري و كأنني إمرأةٌ حُبلى في الشهورِ الأُولى مَأخوذةٌ بِنهم الوِحام : أشتهي أن أشربَ المطر . مددَتَ يومَها يديّك أماماً و جمعت كفيّك في مُحاولة لإلتقاط الماء و تجميعِه حتى أشربَ منه و حينَ قربتَهُ من فمي تسرَب من بيّن أصابِعك و من بين نهايتيّ ثنية مُنتصف كفك ، كلما حاوَلت جاهداً انتهى الأمرُ بِتسرُبِ المَطر ، ضحِكنا كثيراً يومها ، كنتَ تسخرُ من رغبتي تلك حتى قلت في نهاية الأمر افتحي فمك و أنظري نحو السماء ! آهٍ لو تعلم أني من بعدك لا أفتحُ فمي حين أنظر لأعلى و لكن أفتح موقَ عينيّ لكي تفيض أمطارها بألم و أشكوك لأهل السماء .! حتى رائحةُ الطين المُتكونِ بعد سقوطِ المطر مُباشرة ، تلك الرائِحة الشهيّة التي تعبقُ بها الأجواء و التي تنتشر بسرعَةٍ مُذهلة ، أتذكرها و أتذكرُ أني كُنت أقتسمها معك . كل شيءٍ أُحبه اقتسمته معك إلّا أنا لم أقتسمك معي و إنما وهبتُك كلي ، وما كان ذلك ليملأ عينيك فتركتني و رحلت !
الآن و بعد أن تخليت عني بمقدمِ الشتاء و ذهبت بعيداً دون عودة ، و حيثُ أَمضيَّت على ما يؤكد عدم تقهقركِ و إلتفاتك للوراء لترى ما خلفته من دمار فيّ بعدك ، هـا أنا أُقاسي وحدي صلف البرد و حنق الشتاء الذي أتى و لا يريد أن ينفك محاولاً قهري ببرده كما قهرته بدفئي بك في شتاءات مضت .. حتى الشتاءُ يقتُص مني أن أحببتُك ! و أشياءُ كثيرة تفعلُ أيضاً ليس الشتاء وحده ، فالأماكن التي أزورها الآن و قد زرتها معك من ذي قبلٍ تسخرُ من وحدتي و تأبُطِ ذراعي اليمنى أختها اليسرى في مُحاولة لضمِ جسدي النحيل و تدفئته ، أراها كَطفل نزِق يحاول أن يقهرني لا لشيء سوى أنني لم أبتسم له ، مرة يخرج لسانه لي بإزدراء ، و أخرى يرفع سبابته نحوي و يطلق ضحاتٍ مدوية و كأنه يتابع حركاتِ مهرجٍ أبله ، أو يضع ابهامه الأيمن في أذنه اليمنى و ابهامه الأيسر في أذنه اليسرى و يبدأ بتحريك يديه مشكلاً قرنيّ أيل بكل سُخفٍ و يضحك . و ترتجُ الصورةُ في عينيّ و تنزلِقُ الألوانُ و الصور بعضُها فوقَ بعضٍ ، و أُطلق العنان لمدامعي حَسرة على ماضٍ لن يعود . أما الأشخاصُ الذين كانو يلمزوننا يوماً ما و كأننا أولُ عاشقين يفتتحان سجلاً في التاريخ للعشاق ينظرون إليّ بشفقة مَرَة و بِسخريةٍ مَرتين . و رَسائلنا ! آه منها هذه التي برغم احراقي لها كلما أغمضتُ عيني رأيتُ حُروفها تتأرجحُ في مُخيلتي و تضحك مني ، أ ح ب ك ، أرى الألف تتضخم ضحكاً فتتضاءل الحاء في محاولة لإلتقاط أنفاسِها بعد أن أجهدت بطنها المنتفخة ضحكاً ، و الباء تركُض نحوي جارة خلفها راء و دال ، برد برد برد ، لم تتبق إلا تلكم الكاف التي أستنجد بها أن كوني نبيلة معي و أرسميها [ كفى ] فتصمت ظانة أنها تسديني صنيعاً بصمتها ! فأبخس حقي في النوم و ألجأ لورقةٍ و قلم أو كوبَ قهوةٍ مُرة و قطعِ بسكويت جافةٍ أُسكت جوع معدتي بها و أُفكر كثيراً : كيف أسد جوع قلبي إليك ؟!
لم يا ترى أتعذب بحبي هكذا .؟! لو كنت أعلم أن الحب إن وُثِق يصبح مستقبلا لعنة ما وثقته ما وثقته .. و هل كان الحب يوماً إثما .؟!
البرد يلفني ، تصطك منه أضلاعي ، و ما أعلمه أنه [ يستاهل البرد من ضيّع دفاه ] و لكنني ما ضيعته بل سُلب مني فلم استحققت البرد ، لِمَ .؟!!
أُعذريني يا حبيبتي الشمس إن تخليت عنكِ فحتى حرائقك لم تعد تصهر جليد صدري !
قابلٌ للنقد حتماً /
