منذ زمن يطوي البعد ببطء .. اعتدنا أن نقطع المسافات سفرا من غربٍ لجنوب على خط البحر الأزرق .. نودع الوطن الجميل و نلاقي الأحباب ! نتأمل الساحل بشوق و نعدوه بتوق لما نصله ..
على أسماعنا تغرد " ليلة لو باقي ليلة بعمري أبيك الليلة و أسهر بليل عيونك في ليلة عمر .. " و كُلاًّ منا يفسرها ، يغنيها ، يحكيها على هواه ..!
تحيِّيِنا المحطات الفندقية الصغيرة دوما .. تعطينا قطع الكيك بالبرتقال و أصناف العصير .. كانوا دائما يحبون نكهة المانجو .. وأنا أشرب التفاح ! و ننثر على المقاعد قطع بسكويت التمرية الشهير حينها !
نضحك ، نثرثر .. نتشاجر على الأمكنة ! نقبل والدتي و نزعج والدي .. و نصل مُرهقين سعداء دوما ..
حتى حدثت نقاط انفصال في طريق السفر .. و لم يعد من سفر
..
اليوم الأول ..
استيقظتُ بنصف عين ، أجاهدَ الصداع بعدما ترجَّيْتُه : " اليوم يومٌ مهم ، أعدك ؛ سأشبعكَ من خلاياي طيلة أسبوع العطلة .. لكن دعني أستمتع برائحة أمي هذا الصباح ! " . أمي كالنحلة في المنزل ، ترتب هنا ، تنظف هناك .. تضع الملابس بجانب التوصيات .. إلا أن أحدهما يدخل حقيبتها و الآخر يقفز في قلوبنا . و أنا كالوصيفة أجري خلفها من مكان لآخر . أحسب اللحظات المتبقية للثانية فراقا ! " أمي ، ماذا تريدين مني أن أفعل ؟ أتحتاجين شيئا ؟ أخذت دوائك ؟ أخذت عطرا و شامبو و ملطف للشعر ؟ خذي هذه الحقيبة فهي أفضل .. لا ، لا ، يا أمي .. لا تنفعك الأكياس .. خذي الحقيبة إنها تحفظ أشيائك بشكل أفضل . " .. تعاندني دوما .. " يا ابنتي ، الحقيبة الصغيرة هذه ستأخذ من حقيبتي حيزا كبيرا .. ! " . أصر : " كلا ، هكذا أفضل ! ، حقيبتك كبيرة للغاية و ستتسع لهذه الصغيرة لتحفظ أشيائك من الضياع في كومة الملابس ! " . أحشو حقيبة أخرى بمستلزماتها الأخرى .. تطالعني بفزع : " ما هذا ، لا ، لا ، لا أريدها . سأضعها في كيس صغير ! " . أنظر بغضب و أتمتم : " البدوي عمره ما يتحضَّر ! " .
تُعِدُّ وجبة الغداء حين يفترض بها أن تجمعنا حولها ، و أفكر .. " العشاء الأخير ! ربما
" . أبتسم بحزن و أنبه نفسي لئلا أفكر بسوداوية . عليَّ ألا أفكر بشكل الحياة من دونها في الأيام المقبلة . نعم ! عدم التفكير يعني عدم الألم ! عليَّ أن أتشجع فإذا بكيتُ ستنخرط هي بالنحيب . والدي يتحقق من وجود كل شيء في الحقائب .. و كعادتنا نسخر دوما من كل ما يؤلمنا .. يتجول إخوتي يطلقون النكات على والدي و اهتمامه ! و على والدتي و ارتباكها . نحاول إقناع أنفسنا و إقناعها ؛ كاذبين ! " عشرة أيام بس .. و بترجعي .. لا تخافي محد بياكلنا ، و بعدين منتِ رايحة الصين ! " . و أعيننا تحكي احمرار الشوق !
باقي نصف ساعة من زمن الشمل الجميل . تركت جهازي المحمول حين رأيتها جالسة تشاهد التلفاز و والدي يلتهم بقلبه وجبة الغداء الأخيرة من يديها المباركتين . ذهبتُ و وضعتُ رأسي على ركبتها الطاهرة ، دمعةٌ واحدة تفالتت من سجن الجَلَد . كان لهذه الدمعة الوحيدة تأثير صمام الأمان . انفجر والدي بالبكاء . و تحلق الكل حوله .. و لم يعد هناك من سجن للجَلَد ! لا عقل يواجه صعوبة هذا الموقف !
مواساة ، و دموع حارة .. ثم قام الكل فالحياة لا تتوقف من أجل قلب ! ذهبت والدتي تخيط أكمام العباءة الطويلة على عجل فلم يبقى الكثير على الرحيل . أنظر إليها بشرود .. اتأملها فقط و قلبي ينخلع شيئا فشيئا ! تضحكُ و تبكي و أنا أغرد فوق رأسها بروحي .. وجنتيها الحمراوين مسقط عينيَّ . ابتسامتها الواسعة المرتجفة .. تخيط بالدموع و أضحك لدموعها و أحاول السخرية بلا جدوى .. حتى هذا السلاح بدأ يتصدع أمامها !
الآن ، احتَضَنَتنِي و اسْتَسْلَمتُ لها كليَّأ .. يداي ترخي الوثاق على صدري و روحي .. ، قلبي ينتقل في تلك الضمة مني إليها و فؤادها يتوزع علينا في كل ضمة ! كم هي غنية ، أخذت برفقتها سبعة قلوب و وزعت علينا فؤادها الينبوع .. بكاء ! و من ثم هروب إلى المحمول ..
