قطٌ أسود يجوب المساء .. يتوارى في حنايا الشجر .. في دهاليز الذاكرة .. في جذوع البشر ، لتوه رضع حليب القمر وألقاه جيفةً تلوث ماء البحر ، أخرج إحدى عينيه وتركها معلقة على تلك البناية ، رسم قدميه متدلية على صدر سكير هناك ، كثيراً ما ينام بين سطور رواية .. فيوقظه صوتي وأنا أقرأ ، كدتُ أن أُمسك به .. لكن وجدت بقيته تعبث بداخلي .
لم أُهزم بعد .. فقط تدلى رأسي في كأس صغير .. يداي منسيتان تحت النافذة .. لساني مرمي هناك تلعقه الأرصفة ، رئات كثيرة استبقيتها لتالي الأيام .. لكنها نفدت في حوادثي الأخيرة ، فجأة وجدتني كبرتُ عشرين عاماً .. أصبحت لا أستعيد أسماء تلاميذي .. وأرى الأصدقاء مشروعاً جاهزاً للطعن كما الأعداء .
لم أُهزم بعد .. فغداً يوم شهي ، على ضفاف الشاي يجلس حزني بمرآته الفاخرة ونثرثر .. عن وطن حقنوه في تفاحة معطوبة .. عن أحلام ترعى حبات المطر .. عن فواتير لها طبع الحشرات .. تتكاثر كل صيف ، إنه أمر رائع .. لن تتكبر .. لن تظلم .. وأنت تشعر بالحزن .
بعدها أتهيأ بكل أناقتي .. أضع عطراً انتقيته من آخر أحلامي .. وأُسقط رأسي في شراب طفولتي لأبدوا وسيماً كما ينبغي ، لعلي أستدين من البحر نسمة ناعمة وصوت موج هادئ وأرواح عشاق متأملين .. وأنثر بعض القمح على وجه المكان .. فالحمام متى انتشرفإنه يشيع المرح ، وحين أطمأن على كامل أناقتي .. أُطفئ المصباح وألتقي الذكريات .
في موكب من نور ستأتي حبيبتي .. تقفز نجمتين أو ثلاث لتلتقيني .. وتفتح باب القمر لتجلب لنا زمناً يليق بنا ، بعدما تدفئ الشجر بعصافير ملونة .. وتهدى النحل الضائع لمياسم الزهر ، أنتم لا تعرفون حبيبتي .. هي ليست جميلة .. لكن متى كان المسك جميلاً ، شعرها أكثر حديثه مجون .. عينيها تسقط في قلبي وتضخ دمي .. أنتم لا تعرفون حبيبتي .. هي من جعلت كل عمري يومين .. يومٌ أحببتها فيه .. ويومُ أقضيه في شوق وتيه .
لم أُهزم بعد .. ما زلت أرى الصباح في رائحة البرتقال .. في عيون الأطفال .. في الكلمات المخبأة بين لثغة الألسنة .. ، كل ما في الأمر أني تعبتُ قليلاً .. كنتُ أعلم أن السلالم ليست مكاناً مناسباً للجلوس .. لكني قضيت عمري معلقا بها .. أخشى الصعود والهبوط .