..تقادمتْ السنونُ ، وانفضَ غبارُ الزمانِ ، وتعاقبَ الليلُ والنهارُ ، بناءٌ يأتي من بعدهِ بناءٌ ، وإعمارٌ يتلوه إعمارٌ ، حلولٌ ثم ارتحالٌ ، واختلافٌ في الزمانِ والمكانِ ، يتغيرُ التفكيرُ ،وتختلفُ الاهتماماتُ ، وتنقلبُ الموازينُ ، ويبدأُ الصراعُ ، بين جيلٍ وجيلٍ !!
يحاولُ القادمون أن يخطّوا لأنفسهم خطًا مستقيمًا على صفحاتٍ مهتزةٍ يمسكها لهم السابقون ، فتتعرجُ الخطوطُ ، وتشطحُ الأيادي ، وتتوهُ معالمُ التكوينِ ، وتضيعُ المحاولاتُ اليائسةُ التي يحاولُ من خلالِها الجيلُ القادمُ أن يثبتَ للجميعِ أنه قادرٌ على السيرِ في الاتجاهِ الصحيحِ .
لكنَّ جميعَ المحاولاتِ .. تبوءُ بالفشلِ الذريعِ ، ذلك أن الأرضَ التي يحاولُ الجيلُ القادمُ أن يبنيَ عليها منهجَه وطريقتَه ، تهتزُ اهتزازًا عنيفًا ، وتتصدعُ خشيةً من شدةِ ما ألقي عليها ، بسببِ الضرباتِ الموجعةِ التي يوجهها لهم الجيلُ السابقُ تحت ذريعةِ [ جيلٌ لا يعتمدُ عليه ] .
فتهيجُ النفوسُ ، وتزمجرُ الأصواتُ ، وتظهرُ علاماتُ التضجرِ ، وأماراتُ النفورِ ، ومبرراتُ الانفلاتِ ، وتبدأُ الثورةُ ، ضد القيودِ التي تحاولُ أن تجعلَ من الجيلِ القادمِ ، صورةً مكررةً غبيةً من الجيلِ السابقِ ، كأنما نُسِخَتْ عندَ ناسخٍ ، أو طُبِعَتْ في مطبعةٍ ، ونسي الجيلُ الوصيُ أن الظروفَ تغيرتْ ، والمفاهيمَ تبدلتْ ، والاهتماماتِ تنوعت ، فكانت الثورةُ على حسابِ القيمِ والمبادئِ التي ما فتئَ الجيلُ السابقُ .. يلقنُها للجيلِ القادمِ غصبًا !!
إن الهجماتِ الشرسةَ ، والحملاتِ المستمرةَ ، والضرباتِ الموجعةَ ، التي يشنُها الجيلُ السابقُ في حربِِهِ ضد الجيلِ الحالي [ فيما يسمى بنزع الثقة ] صنعتْ ضغينةً وعداءً ، وحقدًا وكراهيةً ، من شأنِها أن تجعلَ من الجيلِ القادمِ جيلاً يستهوي السيرَ إلى التهلكةِ دونَ أن يردعَه دينٌ أو عرفٌ ولا يرده عقلٌ أو علمٌ أو أخلاقٌ .
منذُ أن يترعرعَ الطفلُ ويبدأً في خطواتِهِ الأولى في الحياةِ ، ووالده يرسمُ له صورةً يجبُ أن تكونَ نسخةً مكررةً منه ، وإن اختلفتْ فله الغضبُ والسوءُ والحربُ ؛ الباردةُ منها .. والمدمرةُ !! إن صرخةَ الأبِ لابنهِ ذي الثلاثةِ أعوامٍ بقوله : [ خلك رجال ] هي بدايةُ انتزاع الثقةِ منه ، وجرهِ رغمًا عن أنفهِ من عالمِهِ الطفولي المليءِ بالبراءةِ والفرحِ واللهوِ والسرورِ لعالمِ الرجولةِ التي لا يفهمُ منها.. إلا أن يكونَ له جسمًا كالخُشُبِ المسندةِ ، وشنبًا ولحيةً ، ويجيدَ سياقةَ السيارةِ !!
إن هذا الاحتواءَ و الاقتحامَ العنيفَ الذي يظنُ البعضُ أنه أسلوبُ تربيةٍ مناسبٍ ، مع إغفالِ المنهجِ الحقيقي للقدوةِ الصالحةِ الحسنةِ ، هو بدايةُ السعيِ الحثيثِ من الجيلِ القادمِ لإثباتِ ما لا يمكنُ إثباتُه !!
ليقعَ بعده الجيلُ الجديدُ في دوامةِ إثباتِ الوجودِ ومحاولةِ كسبِ رضا الجيلِ السابقِ بشتى الطرقِ ، إلا أن جميعَ المحاولاتِ في نظرِ المتطرفين من الجيلِ السابقِ فاشـــــلةٌ ، حتى يقترنَ في نفسِ كلِ ناشئٍ من الجيلِ القادمِ الفشلُ باليأسِ ، والخوفُ بالإحباطِ ، والوهنُ بالهزيمةِ ، والتشتتُ بالضياعِ .. ، مما يجعله يحاولُ عبثاً أن يكونَ له دوراً في الحياة .. حتى لو كان ذلك الدورُ سلبياً !!
وفي غفلةٍ من ذلك الوصي المتعجرفِ ، تُشرَعُ للجيلِ الجديدِ أبوابُ الضياعِ ، ومتعُ الحريةِ ، ولذائذُ الوهمِ ، عن طريقِ الصحبِ تارةً ، وفي الشارعِ مراتٍ ، وفي أطباقِ أشهى اللحومِ البشريةِ على الفضائياتِ !!
إن مخاطبةَ الشهواتِ والملذاتِ والحرياتِ مع الوصايةِ القويةِ من حراسِ الفضيلةِ ، من شأنها أن تضعفَ الجيلَ ، فلا علوٌ في الهمةِ ، ولا نبلٌ في المقصدِ ، ولا فضلٌ في الغايةِ ، ولا سلامةٌ في الوسيلةِ ، ولا تفاؤلٌ في الطموحِ ، ولا أملٌ في مستقبلٍ جميلٍ كان حلماً يراودُه !!
تركزتْ اهتماماتُه في خانةِ [ التفاهةِ ] ، بل وصلَ به الحدُ إلى أن يعشقَ تلك [ التفاهةِ ] فهنا جيلٌ متمرسٌ في عشقِ السياراتِ وتدليلها [ آمري يا كامري ] و [ يا لومينا لا تلومينا ] ، وآخرُ كلُّ اهتماماته أجهزةُ الهواتفِ المحمولةِ ، وآخر ما توصلتْ إليه تقنيةُ البلوتوث الفضائحي ، ليستقبلَ ويرسلَ الرذيلةَ من محمولٍ إلى محمولٍ ، وفئةٌ تركزتْ اهتماماتُها على [ المعسل والفخفخينا ] ينفثون السمومَ ، ويتلذذون العفنَ !! ، وأخرى ملأتْ الدنيا صراخاً في غرفِ الدردشةِ تصرخُ بقوةٍ [ هنا الحماقة ] ، وفئةٌ استمرأتْ الوصيةَ القويةَ في الطفولةِ [ خلك رجال ] لتذهبَ تلهثُ في كل سوقٍ بحثاً عن طريدةٍ سهلةِ الاصطيادِ ، وفئةٌ خرجتْ عن إطارِ [ خلك رجال ] ليظهرَ لنا جنسٌ ما عُرِفَ من أجناسِ البشرِ يقولون عنه : [ الجنس الثالث ] !!
إن تشكيلَ الهويةِ للجيلِ الجديدِ .. يجبُ أن تكونَ متوازنةً بين ما يريدُ هو لنفسهِ ، وما يريدُ له الجيلُ السابقُ الذي يتولى تربيتَه وتوجيهَه ، من أجلِ خلقِ احتواءٍ لا يلغيه ، ولا يسفهه ، ولا يحطمه ، ولا يأخذه في عالمِ المثالياتِ الكاذبةِ التي يتغنى بها الجيلُ السابقُ [ يوم كنا ، ويوم كنا ] ... والسبيلُ إلى ذلك في الحوارِ ، والتقبلِ ، والتفهمِ لطبيعةِ الجيلِ .. حتى لا يسقطُ في تلك الحفرِ العميقةِ التي يستهويه ما بقيعانها من شهواتٍ وملذاتٍ !!
.
.