صبغ شعر رأسه وذقنه وشاربه بالأسود .. استلقى على الأريكة مصوبًا نظره نحو السقف .. فكر في ردة فعلها عندما تعلم أنه ينوي الارتباط من آخرى .. فكر أيضًا بالسبب الذي دفعه للزواج ، لقد سئم من مرضها الذي امتدد لخمس سنوات ، وذهابها المتكرر إلى مشفى بعيد عن مدينتهم بحوالي 200 كيلو وعودتها في نفس اليوم .
قُطع حبل أفكاره أثناء ولوج زوجته وابنه الكبير إلى المنزل . نهض الزوج من مكانه و وقف منتصباً كالجندي وراح يمشي مسرعًا إلى الغرفة . استغربت زوجته من تصرفه فلحقت به واقفلت باب الغرفة . في عينيها أسئلة كثيرة وفي قلبها وجل . قالت له : سحنتك متغيرة وتصرفك غير مفهوم ، قل لي بربك ما الذي أصابك ؟
لم ينبس ببنت شفة وكأن الكلمات التي أراد أن يقولها تعلقت في حنجرته ، لقد اكتفى بالتحديق في خزانة الملابس . تطرق الشك إلى قلبها في صمت زوجها . هي تعلم منذ سنين أن زوجها البالغ من العمر ثلاثة وخمسون لا يحفل بشكله ولا بلون شعره ، ما الذي طرأ عليه فجأة فجعله يهتم بمظهره ؟ خيم الصمت في الغرفة لبضع دقائق ، نطق الزوج أخيراً كلمة واحدة بصوت مرتبك ، سأتزوج .
لم تطق سماع الكلمة وشعرت بغصة في قلبها . فتحت الباب وخرجت مسرعة إلى المطبخ ، لا تدري لماذا اختارت المطبخ بالتحديد ؟
بعد نصف ساعة جاء ابنه الكبير إلى الغرفة وسأله عن سبب بكاء أمه ؟ رد عليه بصوت رجولي منتصر ، لا تتدخل فيما لا يعنيك ، هل تسمع الكلام أم كنت أتكلم مع الحائط ؟
أسمع الكلام ولكن الأمر يعنيني ، هي أمي وبكائها يضايقني كثيراً ، قال الابن هذه الكلمات بصوت حزين وخرج . الأب نهض من مضجعه ، وراح مسرعًا إلى المطبخ . وجدها جالسة على الكرسي تقطع البصل ، ودموعها تنهمر. لم تنظر إليه ، قالت بصوت متقطع وحزين : أعلم أن أصابك السأم والضجر من جلوسك بمفردك أغلب الأوقات ، أعلم أنك كنت صبورًا معي لسنوات بسبب ذهابي لغسيل الكلى ، لكنه ليس مبررًا كافيًا لتتزوج !
نظر إليها بغضب ، وأردفت قائلة : لا زلت أطبخ وأغسل الأطباق والملابس وأنظف المنزل كل يوم ، لم أقصر معك بشيء رغم مرضي وتعبي .
أتذكر عندما كنت شابًا تعمل في السلك العسكري قبل أن تتقاعد ، كم جلست من الليالي وحيدة وأنت كنت تخرج باستمرار مع أصحابك ؟
أتذكر يوم مقدم ابننا البكر، أين كنت حينها ؟ لم تكن بجانبي ، لقد كنت مسافرًا مع رفاقك ولولا وقوف أمي وأخي معي في تلك الأيام العصيبة لمت اختناقًا بسبب تصرفاتك الطائشة ، وفوق كل ذلك تحملت وصبرت . أتذكر عندما أصابك مرض السكر ، ماذا كنت أفعل ؟ لم أستطع النوم من دون أن أترك صحن تمر بجانبك ، من دون أن أضع في الثلاجة جميع العصائر لأجلك ، من دون أن أتأكد من تحليل نسبة السكر في دمك . كل هذا لم يخطر ببالك عندما قررت الزواج . أنت كالتمساح الذي يأكل العصفور بعد أن ينتهي من تنظيف أسنانه . ختمت كلماتها بتنهيدة حزينة .
ما برح الزوج متسمرًا في مكانه ، استمع لكل كلمة انبجست من قلبها ، ولكنه سرعان ما رد عليها ببضع كلمات مقتضبة : " نعم أتذكر ، ولكننا نحن الرجال نحب أن ننسى ما مضى إذا قررنا فعل شيئًا ما " ، ثم قفل راجعًا إلى غرفته وأغلق الباب .