حقل من الذهب
اشتهرت بلدتي بالمزروعات حيث اعتمد غالبية سكانها على الزراعة
من بطيخ وشمام وتوت ارضي (فرولة) اما التوت فكانوا يزرعونه في الأرض الغربية من البلدة وكانت تربتها حمراء خصبة .
والجوافة والقمح والسمسم والقطن والخيار والطماطم والعنب والتين والكثير من الخيرات
اما اليوم تغلب البناء على الطبيعة ويعتمد سكانها على التجارة والمهن العصرية الأخرى .
كنا وما زلنا نملكُ قطعة ارض تربتها سوداء خصبة كانوا يطلقون عليها أرض السكة وهي الأرض الشرقية من البلدة .
يزرعها والدي بالقمح الذهبي اللون الذي يقف تحت أشعة الشمس بقامته الطويلة متفاخرا
بـــــــــــِ سنابله بشعرها الأشقر المسترسل على كتف الأرض الكريمة بعطاياها..
فأركض رافعة رأسي نحو الشمس الصغيرة يااا شمس يااا شمس
نملكُ سنابل من القمح أشد إصفرارا من لونكِ ياا شمس أنتِ تغيبين
أما سنابلنا الذهبية لا تغيب .لن أنسى أشجار الكينا الضخمة الطويلة والسمينة
التي كانت تحرص حقلنا من الغزاة وكنتُ أعلم بيني وبين نفسي أنها لا تنام ..
نستظل تحتها وإن كان المحصول من الخضار فنضعه بعهدتها في صناديق خشبية
ونغطيه من أشعة الشمس الحارقة ..
وكانوا الاهالي والصغار يفتخرون بين بعضهم البعض من ارضه انتجت قمح
أكثر واصفر ذهبي ومكتنز الحب . ليتباهوا به امام التجار. ويومها عدتُ إلى البيت
ودموعي بللت شعري الاسود،المبعثر بسبب جدال بيني وبين الصغار
ان محصول القمح الذي حصدوه هذه السنة كان اجود من محصول قطعة ارضنا.
وفي صبيحة اليوم الثاني رجمتُ الارض المزرعة القمح بالكثير من الحجارة صببتُ جام غضبي عليها
حتى فرت جميع الطيور التي كانت تلتقط ما تبقى من الحب المتساقط .
بجانب الارض كانت تمر سكة حديد عجوزة ومهجورة مدها الأتراك لربط تركيا بالحجاز
عبر سوريا وفلسطين وكنا نحن الصغار نننتظر القطار ليمرُ ونلوحُ له بأيدنا الصغيرة .
كان حلمنا اليومي الذي اسقيناه من ما تبقى من ماء وقليل من الزاد الذي يتبقى معنا
..و نخيف بعضنا البعض بمجيئ القطار ونتعثر على خط السكة الحديدية
ومنا من يبكي خوفا لانه لم يلحق رفاقه. وخوفا من أن يقوم القطار بإبتلاعهِ......
ما أن يُحصد الحقل الذهبي حتى تتحول الأرض لصلعاء
بعدما تأتي ماكنة الحصاد لتقص شعرها الأشقر المسترسل على كتفها ...
ولا نعود لزياتها إلا عندما يبدأ ذوينا بحرث الأرض قبل مجئ الشتاء لكي ترتوي من دموع السماء .
وكُنتُ أسألَ والدي لِما السماء تبكيِ ؟فيقول لكي تشرب الأرض ونستطيع أن نأكل.
مسكينة هي السماء تبكي لأجلنا وركضتُ لِأخبر أقراني بما علمت .
ونعود بأكياس كبيرة مليئة بحبوب القمح الذي نشتهيه محمص
فتاخذ والدتي بعض منه وتبدأ بتحميصه في مقلاة فتفوح رائحته تعبق وتملأ البيت والحارة .
ويأخذ كل واحد منا نصيبه في قُمع من ورق .
جميلة جدا هي ذكريات الطفولة التي تجعلنا نشعر بالكثير من الشوق والفرح .
وبساطة العيش والإبتعاد عن حياة الترف وما وصلنا إليه اليوم من تفكك مجتمعات وأوطان وأسر وعلاقات وعدم الشعور بالأمن والأمان .