المقالة الثانية ( عدد يناير 2009 )
مزاجية الكتابة
أحياناً تأتينا الكتابة مباغتة بصورةٍ تُعجزنا عن صدّها وغالباً ماتكون بكامل أناقتها في حالتها البكر , لتصبح رغبة والورقة جسد, ولانملك حينها سوى الاحتفاء بحضورها الأول لنهندمها قليلاً قبل أن نُشرع لها نافذة الحضور لمشاكسة الذائقة بعفوية , وغالباً ما نطرق جميع السبل لاستفزازها ولا تفعل , فالبعض يحاول استدعائها على دخان سيجارته وهناك من يستمع للموسيقى الهادئة علّها تتراقص أمامه كصبيّة تغري حروفه بالتمدد على جسد الورق وهناك من يكتب آخر الليل حيث الهدوء يتوسّد المكان , وهناك من يتجه للقراءة لاستحضارها ورغم ذلك تظل حبيسة أدراج القريحة وإن خرجت أطلت على استحياء بلا روح , مبتورة الإحساس , لنجد أمامنا نصاً لايليق بنا كشعراء/ كتاب , فما بالنا بقارئ يتلمس الجمال بأطراف ذائقته ولايجد مايليق بها.
هي مزاجية الكتابة إذاً, تحضر أحياناً وتراوغ كثيراً ولانملك حينها سوى انتظار المطر لعلّها تجود بغيمة تبلل الورق كما يليق بعشب.
هناك من يتغلّب عليها ويستحضرها عنوة بلا روح وبملامحٍ باهتةٍ , جل همه تكثيف حضوره , وإن خلا من التميز , وصورته الشخصية المجاورة للنص, في حين أن هناك من يتروى بحثاً عن قارئٍ واعٍ يعنيه الكيف , قارئ يفتقده حين غياب ويبحث عن نصوصه بشغفٍ لا كما يحدث مع صاحبنا الأول الذي سئم القارئ حضوره الباهت , وأكاد أن أجزم لو استطاع النشر في الصحف الإعلانية لفعل.
أعلم أن المزاجية في الكتابة مؤرقة / مقلقة ولاتصيب الجميع وأعاني منها وهي السبب الأول لقلة حضوري الشعري, وأعلم كذلك أن هناك قلة فقط من استطاعت تجاوزها وأبدعت في كل حين , بالرغم من أنني ضد تكثيف الحضور الشعري وإن كان مدهشاً , فالملل يتربص به غالباً
ترى هل تعاني الساحة الشعبية من المزاجية؟
أتمنى لو كانت كذلك ,, لربما ازداد شغفنا بترقب الجديد لعلمنا بتميزه .
فتنة الكتابة
تخلعُ الغيمةُ فستانَها الأبيضَ .. لتكشف عن فتنتها ..
حيث المطر قبلةُ الارتواء الأولى ..
لأرضٍ بكرٍ .. لم تطأها أقدام العابرين ..
وحيث الكتابةُ مستلقية على صدر العشب ..
خضراءَ .. فاتنةً ..
كصبيةٍ استفاقت للتو ..
لتتلوَ تعاويذَ الماءِ على المتعلقين بخصرها ..
وتُقبّلَ من شق طريقاً وعراً بمزاجيّتِها ..
ليتعلق بشفتيْها ..
عابثةٌ .. جريئةٌ.. تُبَاغِتُنا مساءً حينما نسكنُ إلى أسرّتِنا ..
فنلتحف ورقةً .. ونتوسد قلماً ..
لكم هيَ مُزعجةٌ.. حينما تنزعُ كائناتِ النومِ الصغيرةَ من أحداقِنا
لتحبِسَها بين كَفَّيْ السهر ..
مشاكسةٌ هيَ ..
حين تُأرْجحُنا .. مابينَ احتمالات ولادةٍ مبكرةٍ لطفلٍ مُكْتنزٍ بالعافيةِ ..
و بين إجهاضِ الكلماتِ من رَحِمِ الأدب
نحْوَ ركامٍ من الأوراقِ الممزقةِ لأفكارٍ لم يكتمل تكوينُها الإبداعي بعد ..
مجنونةٌ هيَ ..
وتَدفعُنا نحْوَ هاوية الجُنون ..
حينَ تطلُ بِرأسِهَا مِنَ النافذةِ .. مادةً لسانَها ..
كي تُغيظُنا حينما يُعْجزنا فتح بوابتها الموصدةِ ..
متناسين بأنّ المفتاح كامِنٌ في عقولِنا ..
ولسنا بحاجةٍ إلى صانعِ أقفال .. قدْر حاجتنا إلى البحثِ تحتَ عتبةِ التفكير ..
كريمةٌ هيَ ..
كناسكٍ يَنثرُ المكرماتِ في أكفِّ العابرين ..
المتهافتة .. المتدافعة ..
رغم احتماليةِ خيبةِ البعضِ بـ " الخواءِ وخفَّيْ حنين " ..
مُنهِكةٌ جداً ..
إذْ تُعجزنا عن التقاط أنفاسنا ..
بينما نركض على الورقِ خلفَ الحروفِ الهاربةِ من قدرِ تشكيلها كصلصالٍ بين أصابعِ اللحظةِ..
شهية .. مُسكرةٌ .. مُكْتنزةُ التفاصيلِ
إذ نهزُّ أغصانَها لتتساقط الحروفُ في أفواهِ الدفاترِ ..
آملين أن تُصابَ بالتّخمةِ .. ولا تفْعلْ..
سبعُ ورقاتٍ عجافٍ هيَ كلُّ ماتبقّى منه ليغدو مكتنزاً ..
نهزُّ المزيدَ من الأغصانِ بأكفٍ من اشتهاءٍ ..
ليمتلئ كأسُ الورقِ وتبتلّ أطرافُهُ .. ارتواءً ..
ويَكْتنزُ بالضّياءِ ..
هي الكتابة ..
جنة الماكثين وجحيم المتسكعين ..
جئنا نقدمُ لها القرابينَ .. ونتقاسم نبوءةَ العرافةِ حين رتّبت لنا موعداً مع القدر ..
وطلبت منّا أن نؤمن بما نمتلكه من أدوات أدبيةٍ وكتابيةٍ ..كما نؤمن بهِ ..
و لربما كنا أكثر تفاؤلاً وحماساً حينما تخلعُ الغيمةُ قميصَ المطر .. لتُلْقيهِ نَحْوَنا ..
لنشتم رائحةَ الأرضِ بعد ارتوائها.. ونتمرغ بها لنستشعر كينونة البذرة الأولى ..
ونُقرِئُ أقلامَنا السلامَ .. ونتمدَّدُ بجانبِ الكتابةِ حيثُ العشب ..
نباغتها بقبلةٍ بين عينيها .. وندندنُ تهويدةَ "أن نامي بسلام" ..
فنحنُ حولَها موقنون .. أن الأرضَ ستغدو ثيباً ونحن الفاعلون ..
ن . م