
أيْهَمُ وَ مُلْهَم
ارْتَدَيَا رَوْعَةَ الشَّفَقِ
التَحَفَا رَحَابَةَ الأُفُقِ
لَبِسَا هُدوُءَ الغَسَقِ
اسْتَلفَا مِنْ الشُّمُوسِ شُروقَهَا
اسْتَعَارَا مِنْ الزُّهُورِ عَبيِرَهَا
اقْتَبَسَا مِنْ الحُقولِ جَمَالها
وأخذا مِنْ الطُّيُورِ رِقَّتَهَا
كَعَادَتِهمَا كُلَّ صَبَاحٍ
حَمَلا حَقِيبَتَهُمَا المَدْرَسِيَّة
وَبَيْنَ الكُتُبِ دَسَّا جِدَّهُمَا
فِي الأَقْلاَمِ حَشَرَا اجْتِهَادَهُمَا
وَعَلى الدَّفَاتِرِ حَفَرَا نَشَاطَهُمَا
يَدْفَعُهمَا إصْرَارُهمَا عَلى النَّجَاحِ
يَزُجُّ بِهُمَا طُمُوحُهمَا للعَليَاءِ ..
كَانَ ذَاكَ الصَّبَاحُ مُخْتَلِفَاً
عَنْ كُلِّ الصَّبَاحَاتِ السَّابِقَة
فَقَدْ بَدَا غَرِيْبَاً مُنْذُ بُزُوغِ فَجْرَهِ
تَخَضَّبَ بِالدَّم
تَعَطَّرَ بِالمَوْت
تَسَرْبَلَ بِالبُكَاء
وَتَزَيَّنَ بِالبُؤس
الأشْجَارُ وَقَفَتْ مُتَخَاذِلَة
وَالأطْيَارُ سَكَنَتْ خَائِفَة
وَالفَرَاشَاتُ اخْتَبَأتْ وَجِلَة
حَتَّى الشَّمْسِ أرْسَلَتْ خُيُوطَهَا عَلَى اسْتِحيَاء
فَقَدْ جَاءَتْ مُمَزَّقَة
تَخَلَّى عَنْهَا النُّور
وفَرَّ مِنْهَا الدِّف ءْ
لَمْ تَتًمَايَلْ الوُروُدُ فِي ذَاكَ الصَّبَاح
فَالرُّعْبُ سَلَبهُ الأَلَقْ
وَلمْ يَنْشُرْ النَّسِيمُ عَبِيرَهُ فِي الأجْوَاءِ كَعَادَتَهُ
فَالمَصَابُ أفْقَدَهُ العَبَقْ
بَلْ لَمْ تَبْتَسِمْ السَّمَاءُ
فَالعُبُوسُ انْغَرَسَ فِي خَاصِرَتِهَا
والتَّجَاعِيدُ انْتَشَرَتْ عَلَى حَافَتِّي شَفَتَيْهَا
حَتَّى المَارَّةِ ارْتَدُوا ذَاكَ الصَّبَاح
رِدَاءَاتِ الحُزْنِ
وَتَدَثَّرَوا بِمَعَاطِفِ الأَلَمِ
فَالأَشْيَاءُ إذَِنْ تُنْذِرُ بِحُدوُثِ أَمْرٍ جَلَلْ
وَتُحَذِّرُ بِوُقوُعِ خَطْبٍ فَادِحْ
صَعَدَا السَّيَّارَةَ تُسْبِقُهُمَا ابْتِسَامَةُ البَرَاءَةِ
وَتَفُوحُ مِنْهُمَا رَائِحَةُ اليَاسَمِينْ
رَكِبَ أيْهَمُ ذُو العَشْرِ سَنَوَاتٍ .. بِجِوَارِ السَّائِقْ ..
أمَّا مُلْهَمْ ذُو الثَّمَانِي سَنَوَاتٍ .. فَرَكِبَ وَرَائَهِمَا فِي المِقْعَدِ الخَلّفِيّ ..
سَارَ بِهِمَا السَّائِقُ مُعْتَدِلاً فِي سُرْعَتِهِ
وَسَطَ ضَجِيجِ السَّيَارَاتِ وَازْدِحَامِهَا ..
وَفَجْأَةٌ .. كَسُرْعَةِ البَرْقِ ظَهَرَ لَهُمْ شَبَحُ المَوْتِ مِن الخَلْفِ
لَمْ يَصْطَدِمْ بِهِم فَحَسبْ .. بَلْ .. اصْطَدَمَ بِحَيَاتِهِم أيْضَاً وَمَزَّقَهَا أشْلاَء ..
تُوفّيَ السَّائِقُ فِي مَكَانِهِ .. وَطَارَ رَأسُ أيْهَم للجَانِبِ الآَخَرْ ..
وَغَرِقَ مُلهَمُ بِدِمَائِهِ وَلكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ ..
هُنَاَكَ إِذَنْ فُسْحَةٌ مِنْ أمْلٍ أسْرَعَتْ بِرِجَالِ الإسْعَافِ
وُلوُجَاً بِهِ للمُسْتَشَفَى فِي مُحَاوَلَةٍ فَاشِلَةٍ لإنْقَاذِهِ ..
وَبَعْدَ عِدَّةِ عَمَليَّاتٍ دَقَيْقَةٍ غَابَتْ رُوحَهُ بِمَغِيبِ شَمْسِ ذَاكَ الصَّبَاحْ ..
وَجُنَّ الليّلُ مُسْدِلاً سَتَائِرَ الحُزْنِ
عَلى نَافِذَةِ حُجْرَتِهِمَا ..
وَمُعْلِنَاً عَنْ هُطُولِ أمْطَارٍ مِنْ البُكَاءِ ..
وَمُعْتَذِرَاً عَنْ غدٍ سَيَجِيءُ يَتِيمَاً .. ألِيْمَاً .. عَقِيْمَا ..
فَغَدَاً سَيَصْهلُ الوَجَعُ .. وَ سَيَعْوي الأَلَمُ
عِنْدَمَا تُطِيلُ السَّيَارَةُ وُقوفَاً بِجِوارِ رَصِيفِ الانْتِظَارْ ..
تَرَقُبَاً لِرَاكِبيهَا ..
وَلاَ شَيءَ يَسْكنُهَا غَيْرَ خِوَاءِ المَوتْ ..