16 مايو
ليست معلمتي الأولى فقط هي من مرنت أناملي الصغيرة على رسم الحرف وإتقانه ، لكنها أم ثانية تسلمت أمري بحزم ووفاء بعد يدي أمي ، تلك الحائرة بين فرحتها بدخولي المدرسة ، وحزنها لفراقي لنصف يوم / كل يوم ..
المعلم الأول قيمة قد يتقمصها أي شخص في حياتنا حتى بعد نضوجنا .. ذكرا كان أم أنثى ، فمن بين من درَّسوني بواكير الكيمياء والفيزياء والرياضيات ، لم أعد أذكر سوى من أحبوني من أعماقهم ، وأحبوا المواد التي درسوني إياها ، وفجروا بداخلي علاقة جديدة لا تعتمد على الملاطفة ولا مناغاة الأطفال وإنما على التقديس ، التقديس الصامت بالأحرى ، فالحب ليس بحاجة لقولٍ ليِّنٍ بقدر ما هو بحاجة لفعل مؤثر لينمو ، والإنجاز هو إرادة من الله ، ورغبة من المعلم في دعم صفه ، ورغبة الصف في تلقي العلم.
لكن ماذا عن مادة ليست للتدريس في المدرسة ، خيار شخصي ، ميول جارف يسبق خُطى المرء نحو دنيا جديدة براقة يسوقه إليها؟
كان لي أبا روحيا في الكتابة ، قال لي: لستِ بهاوية عادية ، تهيئي بعتاد قوي ثم انطلقي. فَنَّد لي إيجابياتي وسلبياتي وأوصاني بالخير الكثير ، رفع من همتي وحط عني الكسل ، لكن مع تكرار النصائح شعرتُ بأنني أراه ولا يراني ، أفهم عنه جل ما قال ولا يستمع لما أقول ، بمرور الوقت ضقتُ بالدرس شيئا يسيرا ، ثم شيئا عظيما ،تحول المجلس إلى حلبة لاستعراض الملكات من طرف واحد ، التهى المعلم عن الدرس بوصف نفسه ، وعن الطلبة بإنكار معرفته بهم .. إرضاءا لمن؟ ليست لدي فكرة.
كان من الطبيعي ألا أستجيب لأمره أو نهيه بعدها ، ومن البديهي ألا أقبِّل يديه الكريمتين إذا صادفني، أو ألقى علي رسميات الأعياد ، مات في نظري ، وباتت سيرته علامة فارقة تشوه قسماتي .. و إن ذكَّرتني بفضله الأول علي قلمي.
ثم أتيتَ أيها الربيع الطلق تسير على نهجه لا تختال ولستَ ضاحكا .. و لتعلم أنني بعدما انتهى أبي الروحي بتيك الطريقة فقدتُ القدرة على الإيمان بالأشخاص ، أو القدسيات -كل ابن آدم معيب وأنا أولهم- أجل أضفتَ إليَّ ما لن أنساه بقية محابري ، لكنك لن تقتل فيَ المزيد ذات سقوط.