قبلَ أن تحطَّ قدميكَ على ترابِ وطنٍ آخر , حذارِ من لسعةِ بردٍ تغتالُ أطرافَ أصابعك , عليك أن تتوقّع أنَّ أرضاً أخرى لن تحتضنكَ بذاتِ الدّفء كتلكَ التي احتضنت خطواتكَ الأولى , تعثّرك , و ركضكَ هرباً و خوفاً و حُبّاً و لهفةً ..
هكذا كنتُ أحدِّثُ نفسي قبلَ أن أبدأ جاهدةً في محاولةِ كتمِ أنفاسي لاستبقاءِ أكبرِ قدرٍ من الوطنِ في رئتيّ , كطفلٍ صغيرٍ لا يُحبُّ أخاهُ الأكبرَ إذ يقسو عليه , فإن أصابهُ مكروه , حزنَ عليه بكلِّ ما يحملُ من طفولةٍ و لهفة !
لكنَّ الوطنَ لم يُصبهُ مكروه , وحدها رئتي التي عانَت بردَ الأوكسجين , رغمَ شعورها بوفرته للمرّةِ الأولى !
خطوةٌ أولى , تلتها خطوةٌ أخرى و أنا أدركُ أنَّني رغمَ ثباتِ الأرضِ تحتي أكادُ أهوي , رغمَ الفرحِ الغامرِ باكتشافِ جزيرةٍ جديدةٍ للحريّة , ربّما كانت أو كانت فعلاً بلا وجع , بلا ظلم و بلا قهرِ المسافاتِ و الأصوات , رغمَ ذلك كنتُ اتعثّرُ بأنفاسي و أتلعثمُ و أنا أحاولُ جاهدةً أن ألفظَ اسمي بلغةٍ أخرى !
لأوّلِ مرّة أشعرُ أنَّ الأوراقَ على كثرتها مخرجٌ , منفذٌ للضّوء , إذ طالما ارتبطت بمخيّلتي برحلةٍ طويلةٍ من الشّقاءِ و الكذب , كانّت تركضُ إلى حقيبتي كلهفةِ عصفورٍ إلى عُشِّه و كنتُ أنا رغمَ غربتي عنها و اغترابي بها , سعيدةً باحتضانها , إذ أنّها كانت البداية , بدايةُ البداية !