منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - (] المشاهد و المقاصد [)
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-22-2008, 11:22 PM   #1
عبد الله العُتَيِّق
( كاتب )

الصورة الرمزية عبد الله العُتَيِّق

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 17

عبد الله العُتَيِّق غير متواجد حاليا

افتراضي (] المشاهد و المقاصد [)


(( المشاهد و المقاصد ))

" معرفةُ العلَّة أشرف من معرفة المعلول "
الفيلسوف الكندي

في حياتنا نعيش في اختلافاتٍ في المُحَصَّلاتِ و تنوعاتٍ في المُدرَكات ، و باختلافها كان اختلافٌ في تعاملات الأشخاصِ فيما بينهم ، أدى ذلك الاختلاف في الأُسُسِ إلى اختلافٍ في المُعْطيات ، لأنَّ المعارفَ أولها تصوراتٌ و آخرُها مَلَكاتٌ ، و صحةُ الملَكَةِ بصحةِ التصوُّر ، التصوُّرُ نقطةُ البَدْءِ في إدراكِ المعرفة ، فرعاية صحته من الأهمية بمكانٍ و إلا سرى الخللُ لسائر أجزاءِ المعرفة .
المعارفُ تحملُ مقاصِد يقفُ العارفُ عليها ، و يُدرك حقيقتها ، تلك المقاصد جوهرُ المعرفة و غايتها ، و قيمة المعرفة بما فيها من المقاصد ، و بقدر التفاوت في المقاصد و متعلَّقاتها يكون قَدْرها ، و لا يعرف الشخص المقاصد إلا من خلال وقوفه على المشاهد ، و المشاهد إشارات لتلك الغايات و وسائلُ موصلة ، فهي كالتصورِ و المقاصد كالمَلَكةِ ، لأنَّ المَلَكةَ المعرفية هي تملُّكٌ لمقاصد المعرفة بتملُّكِ زمامِ فهمها .
المشاهد مداخلُ يَلِجُ منها المعرفيُّ للمقاصد ، فليست مُنتهى المراد و لا غاية المقصود ، حيث الغاية الوقوفُ على المقاصد و ما تحويه ، و اعتبارُ المشاهدِ كما المقاصدِ خللٌ في البُنية المعرفية ، و عدم إدراكٍ للغائيَّةِ من المعارف .
يكتفي كثيرٌ من المشتغلين بالمعارفِ بالوقوفِ على أطلال المشاهد ، و المشاهد ليست إلا صوراً و أشكالاً و لا بقاءَ لها و لا حقيقة ، و يكون اعتناؤهم و تصرفهم مبنيٌّ على ما تُمليه تلك المشاهد و ما يقتبسونه من مَدِّ ظِلِّها ، و ظلُّ المشاهد قصيرٌ سريع الزوال .
و الوقوفُ على المشاهدِ يُورِثُ الواقِفَ ملاحظةَ الرموزِ دون الاشتغالِ بفكِّها ، فالمعارفُ مكامنٌ لأسرارٍ مصونةً بالترميزِ ، فلا يصلُ إلى أسرارها إلا من عرفَ كيف يحُلَّ الرموزَ التي بها يُتَوصَّلُ إلى الأسرار ، و لا تُعطيه سوى ملاحظةِ صورة المعلومات ، و لا تُعطيه تعمُّقاً في إدراكِ ما وراءها ، و تُشغلُه بالجزئياتِ و الصغائرِ عن الكُلَّيَّاتِ و الكبائرِ ، و تجعلُ نظرَه غائباً عن البراهين المعرفية و تربطه ببهتانِ البرهان ، و المعارفُ لا تقوم إلا بالبراهين و البراهينُ قاطعة و البهاتين واضعة ، و تُعْمِلُه في البحثِ في رعايةِ المعلولاتِ و إهمالِ العِلَلِ ، فما تُعطيه للشخصِ ليسَ إلا تعطيلاً لجوهرية العقل ، و تجميداً لحركته ، و مِن بعدُ إزالةٌ لوظيفته و قيمته ، و تجعلُ صاحبها ليسَ إلا نُسْخةً بشريةً من معلومةٍ ذهنية ، فلا قيمةَ له و لا منزلة حيثُ كان نُسْخةً زائدةً من معلومة .
فلا يُستغرَبُ من أهل المشاهد المعرفية أن يُحْدِثوا تناحرُاً بينهم ، لوقوفهم على الرسومِ و الصوَرِ للمعارفِ ، فكلُّ ينتصرُ لصورتِه التي رآها ، و عجبُها أنهم يفنون بفنائها ، و يذهبون بذهابهم ، فلا يدومُ إلا ما كان معنى و مقصداً جوهرياً ، و عَدلُ المشاهِد أنها تبدأ بإفناءِ أهلها قبل فنائها .
أما المقاصد فهي أرقى ما تكون بالشخصِ ، و من لاحظَ المعارفَ ليقفَ على المقاصِد و لِيَصِلَ إليها سيكون سعيُهُ في أسمى ما يكون ، فيعرفُ كيفَ يُوظِّفُ المعلومةَ لِتُكَوِّنَ معرفةً ، و يعتني بالكليَّاتِ من خلال استعمال الجزئياتِ استعمالاً لائقاً ، و تنقلُه إلى التعمُّقِ في مداركِ العللِ و الأسبابِ ليُعمِلَ توظيفَ في الأحوال المناسبة ، فعقلُ المقاصدي يُنتجُ في الانتهاضِ المعرفي ، و يجيد مواكبةَ زمانه و معطياتِهِ .
تلك النُّقْلَةُ المقاصدية في المعارفِ تجعلُ الشخصَ منشغلاً بالقيمة المعرفية و مدى جودتها فيأخذ بها دون نظرٍ منه في مصدرها ، لأنَّ ميزانَ المعارفِ يَزِنُ القِيَمَة لا القائم ، و هذه أسرارُ بقاءِ المعارفِ الباقية من العصورِ الغابرة ، أما لو كان المقاصديُّ مشتغلاً بالقائمين بالمعارفِ لكان تقويم المعارفِ مبنياً على قوة التواصلِ بين الذاتين ، و تغيبُ جوهرية المعارف ، فلا يُذكرُ بين المقاصديين ضربٌ فكريٌّ و إنما حوارٌ بنائيٌّ و مناظراتٌ مقاصدية ، يُدلي الكلُّ ببرهانِه و حُجَّته ، فإنْ كان توافُقٌ بِجمعٍ و إلا بقيَ مقصدان مُبرهنانِ .
لجوهريةِ المقاصدية في المعرفة كان العُسْرُ في وضعِ تعريفٍ لها ، و أكثرُ ما كان موضوعاً أوصافٌ و نُعوتٌ ، لتكونَ محلاً لفتحِ آفاقٍ أكبرَ ، و لو وُضِعَ لها تعريفٌ متواضَعٌ عليه بين الناسِ لكان قانوناً يتحاكمُ إليه القاصرون في النظرة المعرفية ، فكلٌّ يضعُ ما لقيَ من حالِ المعرفةِ ، و يصفُ جمالَها و حُسْنها ، لأنَّ المقاصد تحملُ المعاني و المعاني لا نفادَ لها لأن العقلَ لا حدَّ ينتهي إليه ، و المشاهدُ مبانٍ و جمالُ المبنى كُلٌّ يراه و يُبصرُه و ينتهي بِحدِّ العينِ ، و فرقٌ بين عين الرأس و عين القلبِ .
في كلِّ زمانٍ يحتاجُ أهلُه إلى مَن يُنقِّبُ في المقاصد للمعارفِ و يقفُ على أسرارها ، فهي الوظيفة الباقية و المعينُ الثَّرُّ ، و تنقيبُ المعارفِ لتحقيق المقاصد باكتمالِ التكوينة المعرفية ، فالمعارفُ مترابطةٌ فيما بينها ، و ترابُطها في مقاصدها لا في مشاهدها ، فالترابُط المعرفي تتكوَّنُ لدينا منظومةً متكاملةً متواصلة في المقاصد .
في غيابِ الترابُط المعرفي بُليَتْ المعارفُ و الباحثون في تحصيلها بالمشتغلين بالرسومِ دون الفهوم ، و القائمين في رعاية المشاهد على إهمال المقاصد ، و التغنِّي بالرموزِ على غَيْبَةِ المرموز ، فكان التخلُّفُ تشرُّفاً ، و الاعوِجاجُ منهاجاً ، و الصورةُ حقيقةً ، و لا بناءَ للقيمةِ المعرفية إلا باتخاذِ المشاهدِ وسائلَ للمقاصد ، و هذه وظيفةُ أهل المعارفِ في كلِّ زمنٍ ، فلا بقاءَ إلا لأهلِ المقاصِد مهما كانوا ففي بقائهم بقاءٌ للمعارفِ و أهل المقاصِد مشاهدٌ للمقاصِد ، فليَكنْ المشهدُ مُوصِلاً للمقصَد ليُوْقَف على المعارفِ حقيقةً .

عبد الله العُتَيِّق

 

التوقيع

twitter: ALOTAIG

عبد الله العُتَيِّق غير متصل   رد مع اقتباس