كـ شمعة جانبيّة تسلّط المزيد من الضوء على طاولة النقاش
مقال: فوضى المصطلحات
للكاتبة : هديل العبدان
لا يجب على الكلمات دائماً أن تحمل مدلولاً واحداً فقط وتنحصر فيه، فقد تتعدد مدلولاته بحسب موقعه في سياق الحديث أو الفكرة أو حتى الهدف، ولكن هذا الأمر قد يُعدّ أحياناً مُشكلة لأن الكثير يقعون في إشكاليته و مع ما نستطيع تسميته بـ " فوضى المصطلحات " .
يقول أبو الحسن الندوي في هذا : ( الفوضى سبب كثير من الكوارث البشرية، والفوضى اللغوية أشد خطراً وأكثر ضرراً من الفوضى السياسية )، إذاً في مواجهة هذه الفوضى نستطيع أن نقول أننا في خضم مواجهة قضية ثقافية ليست بالهينة!
كثيراً ما يُشكل أمر فهم المصطلح على أثر التلقي خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمور فكرية فقد تتبعها تغيير لمفهوم القاريء تغييراً كاملاً هذا مع وضع احتمالات أن يكون صحيحاً أو خاطئاً حتّى!
أشار إلى أهمية الموضوع د.عمر عبيد حسنة حينما قال : (إن أهمية تحديد المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، في البناء الفكري والثقافي للأمة، أمر ذو قيمة فكرية بالغة، إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين والباحثين يفردون صفحات في مقدمة كؤلفاتهم لمعجم المصطلحات المستعملة والدلالات التي أرادوها من استعمال هذه المصطلحات).
لكن عليّ أن أشير أيضاً أن هُناك بعض المصطلحات العربية التي لم تُعرّف من قبل، لذلك فالمدلول يخضع لتوجه كل كاتب ويختلف من شخص لآخر وقد يتناقض أيضاً لدى الشخص نفسه في بعض الأحيان، لذلك فقد تجد بعضهم تارة يقبلها وتارة أخرى يرفضها.
وهذه الإشكالية أو هذه الفوضى لم تقتصر فقط على من يهاجمون مصطلح ما باعتباره شعار لآخرين، إنما أيضاً من ينادون بهذه الشعارات ويتعبونها معظمهم لا يعرفون بالتحديد ما الذي تعنيه!، إنما تشكل لديهم مفهوم معيّن منها واتبعوه على أساس هذا المفهوم وهو ليس بالضرورة هو الحقيقي.
إن أكبر المصطلحات التي شكلت فوضى لدينا منذ ظهورها هي " الحداثة " و " العلمانية " و " الليبرالية " و " الحرية " و " الثقافة " ، فهذه المفاهيم اختلفت كثيراً، وهناك من هاجمها بقوة وهناك من اتبعها رغم أن الجهتين أغلبها لا تملك تعريفاً ثابتاً يشرح أيّ منها ليكون أحد مبادئه إما في الهجوم عليها أو النداء لها.
كتاب " العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة " للدكتور عبدالوهاب المسيري كان عبارة عن مجلدين واحد للتعريف و المفاهيم والآخر للتطبيق، ذكر في مقدمة الأول الأخطاء الفظيعة التي يقع فيها الكثير في فهم العلمانية واعتقاد الأغلبية أنها مجرد " فصل الدين عن الدولة " بينما لدينا علمانية جزئية وعلمانية شاملة، أحدها فصل الدين عن الدولة و الآخر فصل القيم عن الانسان وحياته، و بيّن كيف أن حتى من ينادون بالعلمانية بعضهم يعتقد أنها مجرد ممارسات و أفكار، إذاً فهذه الفوضى قد تدخل حتى في قيم الانسان و مبادئه وحياته.
تحدث عن هذا علي حرب في كتابه " أوهام النخبة أو نقد المثقف " الصادر عن دار الفكر العربي في مقدمة الطبعة الثانية ، تحت عنوان " إشكالية المعنى " حيث قال في البداية : [ لا تُجدي هنا العقلية الإيديولوجية الخُلقية، التي تتعامل مع الواقع بلغة الصدمة والإحباط، أو بمنطق النفي ومسلك النّعامة ]، ثمّ دعى في حديثه إلى مواجهة تلك المفاهيم و محاولة حلّ تلك الإشكالية للوصول إلى المعنى الحقيقي لها حيث قال : [ والمجدي في مواجهة هذا الإشكال هو العمل على تفكيك بنية المعنى وتعرية أسسه، للكشف عما يتأسس عليه من اللامعنى، وبصورة تؤدي إلى إعادة الترتيب و التوزيع و النشر للأولويات والثروات والسلطات]
منذ استخدمت طريقة بالرسم تعلمتها في أحد الدورات الثقافية سهلت علي قليلاً استيعاب بعض المصطلحات و تحديد موقفي منها كذلك، بأن أكتب المصطلح في الأعلى .. ثمّ أُخرج تشعبات عديدة بعدد المفاهيم التي تندرج تحت هذا المصطلح، أسفل كُلّ مفهوم أكتب سلبياته وايجابياته، ثمّ بعدها أُحدد موقفي منه، هذه الطريقة ساعدتني أولاً في النظر إلى المفاهيم المختلفة لهذا المصطلح بشكل أكبر، وثانياً بأن استطعت تحديد ايجابيات و سلبيات كلّ واحد منها لتبقى لديّ ثابتة وتكوّن خلفية لديّ من أجل المواجهات، وثالثاً تساعدني في تحديد موقفي من كل واحد منها.
نحنُ لا نعيش في عالم كلّ شيء فيه منفصل عن الآخر، و لا نعيش أيضاً في عالم كُلّ واحدٍ فيه يسير في طريق له دون أن يصطدم بالآخر، لذلك فأي ممارسة لنا أو تفكير لن تؤثر بنا فقط وبعاداتنا و أفعالنا وأفكارنا ومواجهاتنا وبسير حياتنا، بل أيضاً ستؤثر بمن حولنا إما باتباعنا أو بالابتعاد عنّا أو حتى بالاصطدام و المواجهة، لذلك فقضية فوضى المصطلحات التي نعيشها كثيراً قضية ليست بالهينة إذ تتحكم بنا تحكماً كاملاً دون أن ندري أو حتى أن نحاول اكتشافها و معالجتها ومن ثم تصحيحها، لنبقى بعدها أمام صراحة مع أنفسنا وفِكرنا و من ثمّ صراحة مع الآخرين.