وكشّر وحش السماء عن أنيابه
مرّتْ ثلاثة أيام على هذه السلاسل التي تكبّله، لم يعبأ جاك بحبسه وإنما شغله الشاغل منصبّ على نجم سحابة أورط، قال في نفسه: ما كنتُ أظن أنه سوف يأتي يوم ويمنعني شيء عن متابعة رصد النجم. تبا لهذه السلاسل اللعينة، منعتني عن وحشين، أحدهما رابض في السماء يروم إلى التهام العالم (يقصد تحول نجم سحابة أورط إلى ثقب أسود ومن ثم يلتهم العالم)، أما اللعين الآخر فهذا الرابض بعرشه في البيت الأبيض.
كلما دخل عليه حارس السجن ليدخل له الطعام كان جاك يقول للحارس راجيا بأن يحاول أن يصل إلى رئيس ناسا ليخبره بمكانه لأن العالم كله تحت قبضة نجم. وأن العالم كله مجرد لقمة سيلوكها في فمه فور تحوله إلى ثقب أسود، سيبدأ بمحتويات سحابة أورط حتى إذا انتهى منها دخل على كواكب المجموعة الشمسية فالتهمها واحدا واحدا، بدءا من نبتون ومنتهيا بالشمس.
استمع له الحارس، فهاله الأمر فبحث في شأنه.
تابع رسالتيه المسجلتين على اليوتيوب الخاصتين بالماجستير والدكتوراه.
ولما شاهد اللجنة وهي تمنحه شهادة الدكتوراه في الخيال العلمي في حضور الساسة الأمريكيين واليهود ولاسيما أنه شاهد بعض أعضاء حركة الصهيونية العالمية ارتاب في أمر جاك، فتارة يقول بأنه عميل صهيوني وتارة يقول إن كثرة العلم أفسدت عقله، وهذا دفعه للتفكير في أمر لجنة المناقشة بأنها غير نزيهة لوقوعها تحت طائلة الحركة الماسونية.
ولذلك لم يسمع له واكتفى بالسكوت.
أما رئيس ناسا فقد افتقده كثيرا منذ أول يوم غاب فيه، فهو معتاد دائما أن ينظر إليه وهو يتابع رصد نجم سحابة أورط.
ولقد قضى الثلاثة أيام الفائتة ما بين البحث عنه ورصد نجم السحابة، وبين الفينة والأخرى يبكي لفقدانه.
وفي مساء اليوم الثالث وهو مقبل على مراصد ناسا لمتابعة النجم تذكر شيئا، فضرب جبهته وقال لنفسه: كيف يفوتني أمر كهذا؟! الحرس، الحرس، لابد أن حرسه يعلمون بمكانه.
فهرول نحو سيارته، ثم ارتد للخلف مرة أخرى وقال: ألقي نظر أولا على النجم ثم أذهب إلى حرسه.
نظر واقفا، بعد مضي لحظات تسمر كأن على رأسه الطير، ثم ضغط برأسه على التلسكوب الراصد يحدق في النجم، مرت لحظات أخرى لم يتحرك من الصدمة، فجأة خرّ على كرسيه فاتحا محجرا عينيه على مصراعيهما، أما دماء وجهه فقد غادرت منه هاربة.
صرخ مناديا باسم جاك، ثم قفز من كرسيه وتوجه نحو الباب قاصدا حرس جاك.
استقلّ سيارته الطائرة حتى عثر على كبير حرس جاك، وسأله عنه فقصّ له الحارس ما حدث من ثلاثة أيام وليلة فائتين، فأخذ يفكر ويمعن في التفكير حتى هداه إلى الذهاب إلى البيت الأبيض، بل تأكد أنّه هناك.
استقلّ سيارته الطائرة وحلّق قريبًا من البيت الأبيض، ثمّ هبط على مقربة منه، وتقدّم إلى البوابة الرئيسة وطلب مقابلة الرئيس.
هاتف الحارس رئيس الحرس، وفور أن سمع منه مقدم رئيس ناسا قال في نفسه: ها قد جاء ما تكره يا رئيس البيت الأبيض، لقد حان إطلاق سراحك يا أيها الجاك العظيم.
دخل رئيس ناسا من البوابة وقابل في طريقه رئيس الحرس فسأله عن جاك فأجابه: «هون عليك أيها الرئيس، فإني أجدك ملتاعا إلى أقصى الحدود، لعلك تريد الرئيس، هلم بنا إليه.»
فور دخوله ألقى عليه التحية، ورد عليه رامسفيلد التحية بدهاء ومكر.
شعر رئيس ناسا بأن رامسفيلد يخفي أمرا رغم دهائه ومكره، وأسرّ ذلك في نفسه، وجاء كلامه معبرا عما يجيش بداخله، وكان كلامه: «سيادة الرئيس قال لي الدكتور جاك إنّه سوف يأتي هنا، وقد بحثت عنه في كلّ مكان فلم أجده، فقلتُ لعّله في ضيافتك.»
- «كنتُ سأرسل إليك اليوم، وأحمد الربَّ أنّك أتيت، جاك جاسوس للعرب، وحفاظًا على وكالة ناسا العالمية آثرتُ أن أخفي الخبر لحين ملاقاتك.»
لم يخش رئيس ناسا من قول الرئيس لأن جاك في مأمن من قبضته ولاسيما بعدما رصد الكارثة عبر تلسكوب الرصد.
ولذلك قال له متوعدا عاقبة فعله بجاك: «ملاقاتي! ملاقاتي أنا! بل عليك ملاقاة العالم كلّه.»
وفور الانتهاء من قولته وثب قائما وسأله بثقة: «أين الدكتور جاك فخامة الرئيس؟»
- «عجبا لك من رجل! أقول لك إنه جاسوس وتسألني عنه! الأحرى بك بأن تطلب له محاميا.» زفر زفرات طويلة محاول إمساك نفسه عن رامسفيلد، وآثر أن يتلطف معه فقال: «سيادة الرئيس، جاك الولايات المتحدة الأمريكية هو رمز دولتنا وقوميتنا الحقيقي، ولابد من إحضاره الآن، فقد تحقق كل ما قاله مخالفا بذلك الرأي الجمعي العالمي بشأن نجم سحابة أورط، للأسف، قد تحول النجم إلى ثقب أسود والعالم كله قد يتحول إلى مضغة له خلال بضع سنوات فقط.» فور أن أنهى كلمته انهدّ على الكرسي.
قال الرئيس غير مكترث لكلام رئيس ناسا حقدا وحنقا على جاك: «إن كان هناك من سيخلّص العالم من الشرِّ فهو أنا، لذلك أريد طائرة مخفية.»
هبّ به صارخا معنفا: «أقول لك العالم على وشك الفناء وتقول لي أنا أنا، من أنت أمام جاك الولايات المتحدة الأمريكية! وماذا تفعل بطائرة مخفية في حربك ضد آسيا والعالم كله معرض للانصهار في ثقب أسود، بوق إسرافيل في انتظارنا أيها الرئيس.»
ارتد رامسفيلد للوراء، ودون مقدمات هاتف رئيس الحرس بإحضار جاك. ثم نظر إلى رئيس ناسا وقال: «خذه هو لك.»
خرج من البيت الأبيض ليجد جاك بانتظاره في السيارة.
فور أن استقل السيارة وطار بها قال له: «تحوّل النجم إلى ثقب أسود يا جاك.»
رغم توقع جاك بتحوله إلا أنه تفاجأ بهذه الكارثة، فصاح به: «ألم تر النجم؟»
أومأ رئيس ناسا برأسه يمنة ويسرة ناهيا والدمع ينفجر من محجري عينيه.
قال جاك مستدركا: «وجدتَ ظلاما؟»
أومأ برأسه هذه المرة لأعلى وأسفل إشارة بالإثبات عن سؤاله.
قال جاك باستسلام: «إذن، قهرته جاذبيّته رغم كتلته الصغيرة وانكمشَ على نفسه متحولاً إلى ثقبٍ أسود، يا ويل هذا العالم مما ينتظره، يا ويله.»
وصل أخيرا، نزل جاك عن السيارة قفزا وهرول لا يلوي على شيء نحو المرصد. حاول رئيس ناسا إدراكه -حتى تلاحقت أنفاسه- فلم يتمكن، عينا جاك تتقافزان لتسبقاه، فور وصوله قفز نحو التلسكوب، حدق به، فوجد الثقب يتنفس أبخرة على شكل هيجان من البلازما يلفظها بسرعة تقارب سرعة الضوء من على جوانبه وحوافه، يدور حول نفسه وهو يمارس زفيرا فضلا عن شهيق أقل ولكنه كارثي.
وصل رئيس ناسا في اللحظة التي كان جاك يحدق في مركز الثقب المظلم، ووجد أن بعض الدلائل تشير إلا أن فمه مفتوح معظم الوقت.
فخر على الكرسي مصعوقا وهو يردد: «جسر أينشستاين مفتوح بصورة شبه دائمة.»
قال رئيس ناسا باكيا: «تقصد أنه جائع على الدوام؟»
أجابه: «نعم، لكنّ أملَ النجاة موجود بسبب أن معدل زفيره أكثر من معدل شهيقه، إلا إذا، إلا إذا ..»
تمتم ثم سكت. وكان سكوته بمنزلة رمي سهام القلق في روع رئيس ناسا فقال مضطربا:
-«إلا إذا ماذا؟»
- «نجاتنا منه مقترنة بنجاة الأجرام من حوله بأن تتحول إلى فرائس له.»
- «وإن لم تنج، تكن النهاية إذن؟»
- «نعم، كلنا سوف نكون له بنكهة جيدة، لكن لا تخش، فما دمت موجودا فلن يتمكن من هذا العالم.»
سكت هنيهة ثم قال: «سيادة الرئيس، أريد صورا أوضح لهذا الملعون.»
على الفور أرسل رئيس ناسا إلى المراصد المتطورة والتلسكوبات المتموضعة على متن الأقمار الصناعيّة للتأكد ممّا رآه هو وجاك.
وبعد أن جاءته قال: «للأسف صور المراصد الفضائيّة تؤكّد مما رأيته سيادة الرئيس.»
ساد الصمت لحظات، أمسك جاك خلالها الصور التي أرسلتها المركبة الفضائية غير المأهولة التي تسبح في الفضاء خارج المجموعة الشمسيّة، حدق بها جيدا، ونقر بإصبعه على موضع في إحدى الصور منها وهو يقول بعد فكر وتدبر: «هذا هو أمل النجاة، بصمة بخار ماء.»
قال رئيس ناسا: «ماذا تقصد يا جاك؟»
- «عندما تتبلور الفكرة جيدا في رأسي سأخبرك.»
صمتا هنيهة، قال جاك بعدها: «سيادة الرئيس أريد أن تعقد اجتماعا سريا فورا.»
***
وحضر جميع أعضاء وكالة ناسا.
نظر بك إلى جاك نظرة إعجاب، وقال له: «لقد صدق ظنك يا جاك وهزمتنا جميعا.»
ناوله جاك صور الرصد وقال: «أرجو أن أستفيد بخبرتك سيدي بك، فأرجو إبداء رأيك.»
حدق بك جيدا بالصور، قال وهو يطاطئ رأسه: «إنّ قذفه الشديد وصعوبة التهامه ينذر بفنائه قريبًا، فقذفه ينهي حياته، وصعوبة التهامه تدلّ على الضعف الشديد لجاذبيّته.»
قال جاك: «وماذا يحدث لو وقعت بعض الأجرام في أفق حدثه، تكون الكارثة إذن؟»
أجابه بك: «قلت لك يا جاك جاذبيته ضعيفة، ونجاتنا من فكه المفترس محتمة.»
قال جاك: «وماذا لو ذهبت إليه بعض الأجرام طوعا أو كرها، كثير من الأجرام عائمة في الفضاء سيدي بك.»
بُهت بك وهو يحدق به، ولم يجد وسيلة لحفظ ماء وجه غير السكوت.
قال جاك: «لدينا أمل، بصمة بخار الماء.»
اندفعت أكتافهم إلى الأمام قليلا، وسلطوا أنظارهم إليه، وكاد بعضهم أن يبسط يديه إليه كالغريق، ومضت لحظات صمت وهم ينتظرون كلمته في وجل وترقب وجلودهم تقشعر.
قال جاك: «يا سادة، من مراصد التحليل الطيفي لأشعة الثقوب السوداء وُجِد بصمة بخار ماء في المنطقة المحيطة به، وظهر آثارها على بعد ملايين الكيلومترات.»
ردّ بكْ عليه: «بصمة بخار الماء في الغالب نتيجة البلازما الحارة التي يطلقها الثقب على مسافات بعيدة وتصيب بعض المذنبات التي تحتوي على 80 % جليد ماء، لكن لم تخبرنا ما علاقة بصمة بخار الماء بالأمل؟»
ردّ جاك على الفور: «هذا الثقب من أنواع الثقوب الدوارة، وفي وسط فمه ثقب دودي، وعلى طول الشريط الحدودي الواقع تحت جاذبية أفق حدثه بصمة بخار ماء، فضلا عن أن معظم الوقت ثقبه الدودي مفتوح وهذا يدل على أنه (الثقب الدودي) يحتوي على المادة السالبة، وهذا كله يسهل علينا اختراقه.»
قال أحد الأعضاء البارزين: «طبعا، الثقب الدودي مُرغم على الفتح معظم الوقت لأن المادة السالبة هي المسئولة عن ذلك.»
فهم بك ما يرمي إليه جاك، ولذلك صاح به متمتما: «هل جُننت يا جاك؟! كيف تفكر في الذهاب إليه؟»
قطب رئيس ناسا فور صياح بك، وقال ممتعضا خوفا عليه: «ماذا تظن نفسك يا جاك؟ أنت أبله، أنت فاكر إن اللجنة عندما منحتك رسالة الدكتوراه في خزعبلاتك أنك عبقري، وعلى حق! تريد أن تذهب إليه بشراعك الشمسي المزعوم وجهازك الشامل، جهازك هذا مجرد وهم، لذلك لن أدعمك. جاك، لقد تخطيت حدودك، وحان الوقت كي تعرف قدرك.»
سكت رئيس ناسا، وساد الصمت في المجلس، وكأن معركة شرسة أقيمت وانتهت بسحق جاك وهزيمته هزيمة منكرة، أما جاك فإنه متأكد بأن رئيس ناسا أغلظ له في القول خوفا عليه، ولم يجد بدا في مواصلة فيما عزم عليه، قال: «ألم أقل لكم إن هذا النجم سيتحول إلى ثقب أسود ونكرتم علي؟! ألم أقدم رسالة الدكتوراه في ابتكار شراع شمسي وجهاز شامل، ورغم سخرية لجنة المناقشة فيما قدمته في الرسالة إلا أنهم لم يجدوا بدا في منحي الرسالة بسبب قوة حجتي وقوة استدلالاتي؟! وأقول لكم اليوم إني قادر على الخلاص من هذا الثقب اللعين، والأحرى بكم أن تصدقوني وتثقوا فيما قلت بعد أن ثبت صدقي فيما أنكرتم علي من قبل.»
قال أحدهم ساخرا: «أنت فاكر إن الموضوع لعبة، تريد أن تسبح في الفضاء بشراع شمسي عشر سنين بقوة دفع اندماج نووي ومحطات شمسية عملاقة على سطح القمر، إن نفقة الرحلة قد تستنزف كل اقتصاد العالم.»
كظم بك غيظه بمغادرة قاعة الاجتماع. أما رئيس ناسا فوثب منتفضا وأشار إلى جاك بسبابته معنفا بقوله: «جاك، أعرض عن هذا وإلا طردتك من الوكالة.»
هب فيهم جاك جميعا، وصرخ: «أنا أستطيع أن أحدد مساري إليه، وأراه أمامي رأي العين، أنا أستطيع أن أرسم خريطة فضائيّة بكل دقة لمجرة درب التبانة، وهذا المتمركز (يقصد الثقب الأسود) في أول سحابة أورط أهون علي من جناح بعوضة لو تكاتف العالم واتحد بدلا من تربص بعضهم بعضها، وإن كنتم ترتابون في قدرتي فإني أذكركم أيضا فضلا عما سبق بأني كنت حديث العالم يوم أطفأت حريق جامعة بيركلي بسيارة طائرة في حين عجزت طائرة الإطفاء العملاقة عن إطفائها، وإني أسألكم الآن، هل تذكرون فتى البركان الملثم الذي لم يعرفه أحد حتى الآن؟»
قالوا له: «وما علاقة هذا الفتى المعجزة بما نحن فيه؟ هل شرد عقلك لهذه الدرجة؟»
فاجأهم جاك: «أنا فتى البركان الملثم الذي كان ولا يزال حديث العالم -منذ أكثر من عشر سنين- ولاسيما أمريكا حتى الآن.»
تبسم رئيس ناسا ضاحكا فرحا وإعجابا بجاك الذي يعتبره أغلى من أولاده، بينما تسمر الباقون وكأن على رءوسهم الطير.
قال جاك: «والآن هل من الممكن أن أشرح خطتي؟»
قال رئيس ناسا: «اتفضل.»
قال جاك: «القمر نملك فيه بعض الخامات التي تصلح لصناعة مجموعة ليزرات قويّة، لكنها لن تكفي مطلقًا لخوض رحلة إليه، لابدّ من إرسال كلّ المواد اللازمة لبناء أجهزة ليزرات ضخمة عبر المصاعد الفضائيّة التي تمتلكها ناسا، على الفور. وعمل الشراع الضوئيّ على الفور.
وأنا سأعمل ليلاً ونهارًا على الجهاز الشامل. أرسلوا هيليوم -3 الى القمر اللازم لعملية الاندماج النوويّ، ذلك الهيليوم الذي اغتصبتموه أنتم وغيركم منه، وكثّفوا البحث عن المزيد والمزيد منه فقد نحتاج كلّ الكميّة الموجودة على سطح القمر، أريد خبراء الفيزياء النوويّة على القمر خلال أيام.»
لم يجدوا مفرا من الموافقة رغم عدم قناعاتهم بكل ما بينه، وكأنهم يقنعون أنفسهم بأنهم أغبياء، أو كأنهم يقنعون أنفسهم بأنه على صواب وذلك من خلال انغلاق عقولهم أمام أسطورة عبقريته.
وقبل فضّ الاجتماع كلّمه رئيس ناسا واضعا يده على كتف جاك: «فتى البركان الملثّم أهلاً بك في ناسا، أنقذتَ جامعة بيركلي سابقا والآن سوف تنقذ العالم كله في ساحة سحابة أورط.»
***
في الوقت الذي كان يصارع فيه جاك أعضاء وكالة ناسا كان فهمان يصارع نفسه من أجل دفعها نحو العمل على مصادم ffc-2.
فإن كان جاك يود مصارعة ثقب أسود في السماء، وهو يعرف مكانه بالضبط، فإن فهمان يجبر نفسه من أجل البحث عن المعبر الذي يؤدي به إلى بوابة إبليس والذي أسماه بالوتر الناري المهتز وهو وتر واحد فقط من بين مليارات الأوتار الفائقة التي تكلم بها كثيرٌ من الفيزيائيين.
لم يستطع قلب فهمان ولا عقله استيعاب ما يحدث في العالم من حروب إلا من خلال أفعال إبليس.
أفعال إبليس وحزبه جاثمة على صدره، فصرخ استغاثة: وعزة الله وكبريائه لن أتركك أيها الإبليس اللعين، إن كنت تظن أنك في مأمن مني وأنت قابع خلف بُعد محجوب عن البشر فأنت حالم واهم، مصادمي ffc-2 سوف يكشف بُعدك، وسوف أطرق البوابة وأدخل.
وسـتعلم قوة الطين عندما تصارع النار.
***
ولم تمر سوى أيام قلائل بعد فض اجتماع ناسا حتى شرعت بامتعاض شديد في التنفيذ العملي لما اقترحه جاك نظريًا في رسالة الدكتوراه.
وكانت الخطوة الأولى هو الدفع برئيس ناسا للضغط على صنّاع القرار الأمريكي من أجل صرف الدعم اللازم لتجهيزات الرحلة.
وثمة اتفاق مسبق بين جاك ورئيس ناسا من مقترح جاك من أجل الحصول على هذا الدعم.
فقد اتفق مع رئيس ناسا بإخفاء التكاليف الحقيقية للرحلة، لأنه يعلم مسبقا أن رامسفيلد سيرفض تقديم هذا الدعم إذا علم مقداره الحقيقي معللا بأنه يحتاج الأموال لدعم حربه ضد الكتلة الشرقية ولاسيما أن تلك الكتلة تهدده باستخدام السلاح النووي بعد هزيمتها من الكتلة الغربية في الحروب التقليدية الفائتة.
عندئذ، لن يجد رامسفيلد مشقة البتة في الضغط على الكونجرس لأن صناع القرار الحقيقيين فيه هم اليهود.
وبالتدقيق في خطة جاك نجده أنه اتبع سياسة الاستدراج حتى لا يجد رامسفيلد والكونجرس بدا من الاستمرار فيما بدءوه، لأنهم سيقولون عندئذ: لقد قُضي الأمر وتورطنا في هذا الدعم اللعين.
وجاك يعلم أنه في هذه الحالة ستضطر أمريكا للإعلان عن أمر الثقب، لأن تكاليف الرحلة الحقيقية أكبر مما يملكه صندوق النقد الدولي، بل أكثر مما في البنوك السويسرية قاطبة. فيتحقق لجاك ما أراد وتنتهي الحرب بلا رجعة على الرغم من أنه يعلم أن يعقوب إسحاق لن يألوا جهدا من أجل إقناع العالم لعدم الجدوى لتقديم الدعم لهذه الرحلة، والحقيقة أنه يريد إنهاك الكتلتين الشرقية والغربية بشريا واقتصاديا من أجل إفساح الطريق له للإعلان عن الحلم الذي طال انتظاره وهو الإعلان عن دولة إسرائيل الكبرى، ذاك المخطط الذي قرروا المضي فيه في اجتماع الكابينت المشئوم.
وأبطنا الأمر (رئيس ناسا وجاك)، أما أعضاء ناسا فمنهم من سكت عن الأمر عن قناعة ومنهم من تم تحييده، فلا هو مع الدعم أو ضده.
وقد رُصد الدعم لمستلزمات الرحلة والتي تشمل:
- الشراع الشمسي وهذا سوف يدفع ويسير بعشر سرعة الضوء حتى يصل إلى الثقب الأسود بعد عشرة أعوام بطاقة الاندماج النووي ليلا (لا يمكن تحقيق الاندماج إلا من خلال الطاقة الناجمة عن الانشطار النووي)، وبقوة الليزر الهائلة نهارا.
- الجهاز الشامل وهو المعجزة والذي يوفر لأعضاء الفضاء الذين يقلهم الشراع الشمسي الماء والطعام والتنفس.
- المحطتان الشمسيتان العملاقتان على القمر: من أجل توفير الطاقة الكهربائية اللازمة لدفع أشعة ليزر تستطيع أن تدفع الشراع لعشر سرعة الضوء.
- مفاعلو الاندماج والانشطار النوويّ على القمر: وهذا أشبه بالجهاز المزدوج، فالطاقة الناجمة من الانشطار النووي منه سوف تستخدم لإجراء عملية الاندماج، ومن ثم تحويلها إلى طاقة كهربائية يمكن توجيهها مباشرة عبر المحطات الليزريّة لتدفع الشراع الضوئيّ بسرعة معتبرة.
-محطات الليزر العملاقة على القمر: وهذه الأخيرة تستلزم جهدا خارقا فوق العادة، وسوف تستنزف ربع اقتصاد العالم في بنائهما.
***
وبالفعل حصلت ناسا على الدعم ورامسفيلد ويعقوب إسحاق يكادا ينفجران غيظا وغضبا، إذ توقفت الحرب بالفعل.
وأول خطوة قامت بها ناسا فور الحصول على الدعم هو إرسال المزيد من الروبوتات عبر المصاعد الفضائيّة لاستخراج هيليوم-3 اللازم لإجراء عمليات الاندماج النوويّ وصنْع محطات الليزر، كما أرسلت خبراء تصاميم الشراع الشمسيّ إلى القمر أيضا إليه ليبدءوا في صنعه.
ولقد أثير جدلاً واسعًا حول المحطات الليزريّة بين جاك وباقي خبراء ناسا، فناسا ترى أنّه يكفي محطة واحدة عملاقة بيد أنّ جاك رفض هذا رفضًا شديدًا وقال لابدّ من سبع محطات ليزريّة، وعلل ذلك بوجوب مشاركة القارات السبع في الرحلة، بل قال إن كل محطة ليزرية يجب أن يرفرف عليها علم قارة من القارات السبع.
ولقد سُئل جاك عن عدم إعلانه بأمر الثقب فقال آسفا: «العالم فيه المرضى والكهول وأصحاب القلوب الضعيفة، ومعرفتهم بأمر كهذا في الوقت الراهن دون أن يلمسوا منا أي تقدم لمجابهته سوف يودي بهم إلى حافة الهلاك.»
ومن أقواله أيضا في هذا الشأن:«إن الروس يساهمون بالفعل في إعداد الرحلة دون أن يشعروا.»
فقيل له عن كيفية ذلك فقال: «ألم تنقب روبوتاتهم المتواجدة على سطح القمر عن هليوم-3 اللازم لدفع شراعي بعملية الاندماج النووي.»
***
ولقد اندهشت موسكو بعد إصدار القرار بدعم رحلة جاك -الذي لا يعلمون من أمره شيئا- من تثاقل الكتلة الغربية في المضي قدما نحو الاستمرار في الحرب، حتى إنّ بعض القوات الأمريكيّة بأحلافها رحلوا عن بعض المناطق الإستراتيجية من المنطقة العربيّة.
لكن جهاز الاستخبارات الروسية gru لحظ أن وكالة ناسا أرسلت كما هائلا من الروبوتات إلى سطح القمر عبر مصاعدهم الفضائيّة،
فضلا عن إرسالهم لملايين المرايا التي تستخدم لعمل أجهزة الليزر.
وكذلك إرسال خبراء فيزياء نوويّة وخبراء فضاء وفلك، وسواء هؤلاء أو هؤلاء فقد استوطنوا القمر.
وبمتابعة أمر الخبراء أو أمر الروبوتات، وجدوا أن الروبوتات تشرع في البحث الدءوب عن هليوم-3، أما خبراء الفيزياء النووية فقد طفقوا يبنون مفاعلين نوويين، أحدهما للانشطار والآخر للاندماج.
وخبراء الفلك والفضاء وضعوا هيكلا لشراع شمسي بحيث يتمركز في مدار حول الأرض.
واجتمع كل رؤساء الكتلة الشرقية برئاسة الرئيس الروسي بحثا عن إيجاد تفسير مقنع لتصرفات الكتلة الغربية في أمر الحرب، وتفسير آخر مقنع حول خبراء ناسا.
وفسّروا تهدئة الأوضاع لخوفهم من الرءوس النووّية التي على مراكز إطلاق الصواريخ، كما فسّروا انسحاب بعض وحدات الجيش بأنّها وسيلة من وسائل الخداع والتمويه حتى يضربوا ضربتهم الكبرى.
وفسّروا إرسال المزيد والمزيد من الروبوتات إلى القمر للتنقيب عن هيليوم-3، ومن ثم زيادة قدرتهم النووّية في الحرب -هذا النوويّ الذي لم يستخدم حتى الآن- لكنهم لم يستطيعوا تفسير صنْع الشراع الشمسيّ ولا تفسير إرسال ملايين المرايا التي تستخدم في عمل الليزر، حتى قال أحد الخبراء الروس قولة مشهورة: «لعلّهم سيضربوننا بالليزر من على القمر.»
واستدرك: «لا ضير إذن، فنحن ننقب عن هيليوم-3 أيضا.»
خطتا فهمان وجاك لإنقاذ العالم:
لم ينشغل فهمان باكتمال النموذج القياسيّ للجسيمات بتاتًا، كلّ ما يشغله هو امتطاء جرافيتون جسيم الجاذبيّة والهروب معه للوصول إلى الشيطان.
ومن هذا المنطلق حاول فهمان أن يشارك صديق عمره الوحيد في همّه فكلّمه عبر البريد الإلكتروني وأعلن له عما يجيش في نفسه من خواطر.
ولقد حدث بينهما حوار طويل عبر البريد وها مستخلصها.
ألقى فهمان رسالة حبٍّ وتحية وسلام.
سأل فهمان: «جاك كيف حالك؟»
أجابه جاك: «بخير صديقي الحبيب غير أنّ الدنيا ليست بخير.»
- «نعم صديقي العالم سيحترق لو نفذت آسيا تهديدها وأطلقت رءوسها النوويّة.»
- «صح لسانك، لكنّي لم أقصد عما قصدته، إنّما قصدتُ شيئًا آخر، هناك كارثة ستقع.»
- «كارثة! لعلك تقصد مجيء كاجيتا للمصادم، لن أدعه يصنع قنبلة الثقب الأسود، لا تخفْ صديقي.»
- «ليس هذا ما أعني.»
سكت هنيهة ثمّ قال: «أتذكر نجم سحابة أورط الذي أخبرتك عنه؟»
- «أذكره .»
توقف كلاهما عن الكتابة، وكأن جاك لا يود إخباره.