منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - تبـــاريــح :
الموضوع: تبـــاريــح :
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-12-2025, 10:37 PM   #56
عبدالعزيز التويجري
( شاعر وكاتب )

الصورة الرمزية عبدالعزيز التويجري

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 18046

عبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعةعبدالعزيز التويجري لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي المرج والمقهى :


كان منذ ريعانه يعوجُ على ذلك المقهى الذي كان فيما مضى مرجًا يلهو به ويلتقي مع من شغفته فيه ، ويعدو فوق الوهد وهي تتبعه ثم يصعد الرابية فتنتظره في الأسفل لكي ينزل ، فيقهقه ويستلقي على ظهره ويرنو إلى السماء والسعادة تكاد تنبجس من قلبه !
يندر أن يمضي يومٌ ولم يُلْممْ به ، وفي أحد الأيام فوجئ بتلك النَّصَفِ جالسة على الطاولة ! رافعة فنجان القهوة تحتسيه وعيناها تطالع كتابًا !
أحد النظر إليها ولم ينبس ببنتِ شفة ، ومذْ ذلك اليوم حرص أن يأتي باكرًا ويجلسَ في مكانٍ قصيٍّ يرقبها من حيث لا تشعر ! وإذا بدأ رواد المقهى بالانفضاض انفض مع أوائلهم !
مُذْ ذلكَ اليوم والحنين والخشية يعتلجان بقلبه فطورًا وطورًا ! وكان مع هذا يأتي باكرًا ويمضي مع أوائل المنفضين ، ولم يفجأه في أحد الأيام إلا وردة موضوعة على الأصيص فوق طاولته !
اختلس النظر إلى طاولة النَّصَفِ فلم يرها ، وأجال ناظره في المكان فلم ير لها أثرًا ، وبعد مضي بعض الوقت أتتْ وكعادتها فنجان قهوة وكتاب !
أطال النظر إليها خلسة ، والذكرى تمر أمام ناظريه وفي قلبه يعتلج ما يعتلج ، ومع هذا ظل قابعًا مكانه وطلب كوب شاي أتبعه بآخر ، وبعدها نهض ومضى صوب الباب ، وتوقف قليلًا ، ونظر إليها ، ثم اعتدل وخرج .
لم يقرَّ له قرارٌ تلك الليلة في منزله ، فخرج واتجه صوب الرابية ، وصعد إليها وهبَّتْ نسماتُ المساء العليلة مضمَّخةً بذكرى من لم تبرح عقله وقلبه ، فقال : الدنيا تُفرِّقُ أكثر مما تجمع ! وتُقصي أكثر مما تُدني ! وتُشجي أكثر مما تسعدُ ! واجتماعنا بعد هذا العمر إنما هو اجتماع الكمد والفراق والتشفِّي ! وإني لماضٍ إلى حيث الخلوة التي لن تطول حتى يَأْزَفَ خروجي الذي لا أوبه منه مدى الدهر ! فمتى تهبُّ الرياح لتأخذ هذه اللعاعة بين جنبي وتمضي بها إلى حيث طال حنيني في الموطن الذي سبقني إليه أحبائي ؟!
أطال النظر إلى البدر المكتمل ، وهو يرى فيه من شغفته ، فقال : لستُ أختلسُ النظر إليكِ وأنتِ قادمةٌ ! بل كنتُ أختلسُ النظر إلى شمس حياتي ، وبدر ليلي وربيع دنياي ومجرة سروري البعيدة المنال !
لما بدأت النجوم بالأفول انحدر من الرابية ، وهو يقول : -وايم الحق- لم يعد لتغريد بلابل الوصل معنى بعد هذا العمر الذي آن فيه الاستعداد لذلك الشقِّ وما فيه من أهوال !
وصل منزله بعيد الفجر ، فأخلد للمبيت وقبيل الظهر أفاق من نومه ، وبعد أداء الصلاة قر عزمه على ما يرى أنه لابدَّ منه ، فاتجه إلى طاولته وأخرج الورق وأمسك القلم ، وبدأ يكتبُ : مُذْ مضيتِ عن القرية وأنتِ لي في حلكة الشجى أنسًا وسرورًا ! وفي غمرة القنوط بدر أملٍ يضيءُ ويجلو جحافله ! وإني لأذكركِ خاليًا فترتسم البسمة على محياي وينساب السرور في قلبي ! وتروضُ يباب الأمل القاحلة !
مُذْ مضيتِ والعوج على المرج المنبسط لي فيه بعض السلوى فسليه وسلي التلال الممتدة عن سيري فيها ومناجاتي لأحجارها وأشجارها وعنادلها وبثي لها صبابات قلبي ووجده !
أما عدونا على سفوحها الممتدة ؟! أما مددنا أكفَّنا الصغيرة حتى تمتلئ بالغيث ثم نشربها بأنس وسرور ؟! أما كنا نستكن تحت أيكة اللقاء ؟! بل أيكة السرور والبهجة والطهر والبراءة ، ثم أنحني فوق رأسكِ لأقيكِ من المطر ؟! أما كنتِ تطرقين علينا الباب لنذهبَ معًا إلى الرابية والتلال للعدو واللعب ، وحينًا أنا من يطرق الباب ؟! أما كنتُ أختلسُ بعض النقود من خزانة أبي لأشتري لكِ بعض ما يأتي به الباعة المتجولون وأهديكِ إياه ؟! أما ... ؟! أما ... ؟!
سلي هذا المرج كم عجتُ عليه في ريعاني –بعد ظعونكِ- وشبابي وغرة كهولتي مرجًا وحوانيت ومقهى ، وما دعاني إلى العوج عليه إلا هواكِ والحنين إليكِ والغدو مع محياكِ العذب والرواح مع ذكراكِ في عهد الطفولة العذب النقي –كقلبكِ- ، وطالما وددتُ من كل قلبي -في عمري الذي مضى- أن أُبهجَ ناظري بمحيَّاكِ العذبِ البديع ، وقلبي بالوصل الذي حال دونه أمد النأي الذي لم ينقضِ ، وأشنِّفَ سمعي من عذب حديثكِ ! أما الآن فحيل بين الهوى والوصل بضباب الخشية والندم والرنو إلى الأمام ومضي الشمس صوب الأصيل ، واستبدلتُ بالدموع التي كانتْ تنهمرُ من الحنين وشجي الشعر ، دموع الخشية والندم وما يطرق سمعي مما يزلزلُ !
طوى الورقة ووضعها في ظرف وضعه في جيبه وبعد العصر مضى صوب المقهى ، واتخذ مكانه المعتاد واحتسى بضعة أكواب من الشاي ، وعيناه على الباب حتى رآها تدلفُ وتتخذُ مكانها المعتاد ، فنهض واستدار وخطى بضع خطوات نحوها ، وتوقف فجأة يقدِّمُ رجلًا ويُؤخرُ أخرى !
لبث برهة على هذه الحال ، حتى غلبه ذلك الأمرُ فاستدعى النادل وأعطاه الظرف وطلب منه أن يسلمه لتلك النَّصفِ بعد ذهابه !
لما دنى الأصيل دفع ثمن القهوة والشاي وانصرف ، فاتجه النادل بالظرف إليها ، وسلمها إياه ، ففضته وقرأتْ الرسالة فطفرتِ الدموع من عينيها وهي تقرأ ما تقرأ ، وبحثتْ عنه في المقهى فلم تجده فخرجتْ وعدتْ إلى الرابية ، فرأته مستقبلًا الشمس المائلة للغروب ويمضي صوبها ، ويقول :

نَعْمْ آَنَ صَحْوي مِنْ غَيَاهبِ دُجْنَةٍ
وَصَرْمُ ثِيَابِ الرَّانِ قَبْلَ اغْترَابي

وكان آخر عهدها به !

1446/8/29 هـ 16 : 11 ليلًا !

 

التوقيع



twitter : @arabods

عبدالعزيز التويجري غير متصل   رد مع اقتباس