![]() |
واستثمروا البائس الفقير
حتى الليل في آخره ؛ أجواؤه ساخنة وكأن الشمس أودعته بعض لفحها قبل أن تأوي إلى جهة أخرى ، ومع ذلك كان حماس نديم وهو يملي على صابر وصاياه أشد حرارة من تلك الأجواء الصيفية في ذلك المقهى المنزوي بعيدا عن العمران( بكرويتاته *) الأثرية وغباره الكثيف . أراد نديم أن يخرج قداحته من جيبه المشقوق فسقطت منه فانحنى صابر والتقطها وقام بإشعال نارها على فتحة ( ليّ شيشة الباعشن ) التي يتعاطاها نديم ذات الشكل المخروطي بلونها النحاسي الذي منذ أن خُلقت لتزين المقاهي العربية وهي تقشعر من الصدأ ، هل كان نديم بفعلته تلك يطرد الصدأ أم كانت ثقافته توحي إليه بأن الحرارة تستطيع قتل البكتيريا ! يسأل صابر: كيف توجد البكتيريا ؟ يجيل – صابر – ببصره في أنحاء المقهى ، يتفرس وجوه الحاضرين ، ويعود ممسكا بالإجابة : لابد أن تلك الأفواه لها دور في ذلك ! يحضر القهوجي إبريق الشاي الأصفر ..المرقع في ذلك المقهى المسرف في الترقيع ، كل شيء فيه مرقع ؛ حصير الكرويتات .. مرقع , وجدرانه مرقعة , وثياب مرتاديه مرقعة , بل حتى وجوههم لم تخلُ من الترقيع ، وعلى ذلك كانت أفكار صابر شبه مرقعة , يبحث عمن يواري شقوقها ، وكان نديم أمله الوحيد ! كانت تبدو على صابر أمارات الاهتمام وهو يصغي إلى رفيقه الذي سينتشله من عالم المعدمين الذين لم يعد يعبأ بهم غير أشباههم , وحتى هؤلاء باتوا يتنصلون من شبهة أمثال صابر ! قرقرت ( شيشة ) نديم بعد أن أخذ عدة أنفاس متسارعة ، وسرح بنظره بعيدا , كمن يفتش عن مفقود في قلب الظلام الممتد أمامهم ، وتكلم بلغة الواثق الموجِّه . . - يا صابر ، لست الوحيد الذي يقطن الخرائب ، فلا تتأسى لضيق الحال ، فلقد أخبرني العرّافُ بأن ملامحك المضيئة قادرة على جعل الخير يهمي عليك من كل ذات رداء حريري وصاحب مجد ورقي موروث دون عناء ، ولكنك في حاجة إلى إحداث قليل من التغيير في الداخل والخارج . يهمس صابر وقد راق له منطق صديقه المتأمل من وراء حسنه الكثير : - ما الذي يجدر بي عمله ؟ أنقذني من هذا الفقر و لك نصف ما أرث ! صابر - هذا - رجل يرى بأنه لم يأخذ حقه من الدنيا ، وأن الحظ وقلة اليد نأوا به وأسلموه للردى ، يعتقد أنه يمتلك عقلية تستحق أن يكون صاحبها في مصافّ اللامعين الذين تبوؤوا المجد والشهرة . يرى أن الظروف لو تهيأت له لفارق جلدَه الخشن , ولأثبت جدارته بكل ما يحلم بالوصول إليه ، ولكن لا يعرف من أين تؤكل الكتف ، لذا .. اتكل على نديم ، علّ الوساوس تساعده في الخروج من قمقمه ! مع أنه يعلم بأن نديم كالحرباء , ولا يؤمَنُ له جانب ، فهو شخص وصولي ومنافق ثرثار ، وأكثر من ذلك فهو من المتعالمين الذين يتحدثون في كل شيء ، و أي شيء .! دنَتْ شياطين رفيقه وأرسلت أنفاسها لتصب في خلَدِهِ ، قائلة : النبلاء – يا صديقي – ما كان نبلهم عفة ؛ بل قدرة على التلون و استثمار الفرص و تكيفهم مع الظروف المحيطة بهم وجعلها تصب في مرافئ أطماعهم ، ولا أخال أنه يعجزك أن تكون واحدا منهم في زمن يؤمن بالخرافة والأساطير القادرة على تيسير أمرك بقليل حنكة ودهاء ! يسأله صابر : - وكيف ذلك يا صديقي ؟ يمد نديم ( لي الشيشة ) لصابر ، ويكمل : - سأكيل لك المديح أمامهم ، وأشعل الفتيل ، وألوي عنق القادر على تغريرهم ممن نرجو حظوتهم ، حينها عليك أن تشمخ عاليا وتتحدث بتؤدة وتُعمِل التفكير وتظهر قليلا من الحكمة ، لن يكلفك ذلك سوى بعض حروف ونظرات واثق و ابتسامة لا تتكرر كثيراً ! الناس أكثر جهلا من السابق ، و الأغبياء منهم ، لا تحتاج لمعرفتهم سوى أن تدير رأسك في أكثر من جهة ، بعد أن تختبر ذلك بإثارتك لشأن ثقافي / اجتماعي ، وحتى دينيّ ! أعني أنك قادر على استغفالهم بأكثر من جملة , وادعاء علم وثقافة , وإذا كانوا حميرا فما عليك سوى ركوبهم ، ولكن يجب عليك أن تصدمهم بمخالفتك وإظهار الفهم , وتلجَ إليهم من حيث لا يعلمون .. ويعلمون ! عليك أن تُعلي شأن الوضيع ، وتحقّر رأي عالمهم فيما شذ من رؤاه ، واحذر أن تخالف ما دون الكبيرة المؤرقة جدلاً ، فالناس الأغبياء لا يجب أن تـأتيهم في مسلّماتهم الجاهلين بكنهها . عليك معرفة ذلك ! ابدأ بأدعيائهم ممن هم دونك من المشابهين لك – ذكورا وإناثا – , وإن بدأتَ بأنثاهم كان ذلك أكثر حظوة ! وضيعٌ مثلك ، إما أن يعتلي على أكتاف الآخرين ، أو يغوص أسفل ضِعَتِه ، حقيرا ذليلا ! فـ هلّا فعلت ؟ وإلا ؛ فكما أنت .. وأدنى ! تومض عينا صابر .. وبحماس يلتقط القداحة فتسقط القداحة على الأرض .. يصرخ بـ علوّ : - هاتِها يا نديم ... يبستم نديم بسخرية : - لا .. ليس الآن يا صديقي ! ــــــــــــــــــــــــ * الكرويتات هي الكراسي المصنوعة من الخصف |
: المقاهي هي المكان الأمثل ..لتعاطي الهُمُوم وَ الوِحْدَة حيثُ الدّخَان يتلاشى كَالأحلام .. تماماً . نديم وصابر .. هُمَا أنا وأنت والآخر .. وَ كُلّ من لم يَجِف عَرَقُه .. بعد . _ كُل الشكر ياعبدالإله _ |
بصدق نص عجيب توغل للداخل لرصد أدق التفاصيل . . رائع عبدالإله شعرت أنني هنا أسمع و أرى لك السلام |
جميل اخي الكريم
سرد تحمله لغة بسيطة وانيقة تحياتي لك |
عبدالإله الأنصاري
ـــــــــــــــ * * * أولاً : لأرحب بعودتك المُفعمة بالروعة والتميّز __ ، وبـ اللغة الشاهقة الباسقة . قليلٌ من يمتلك خيوط الحكاية و يحيكها ليحكيها بتواصلٍ مُنفرد و تفرّدٍ متواصل .. تلك [ القدّاحة ] : بعثها عبثٌ كالحياة أو لأقل : عبثها بعثٌ كالحياة . وأنت الأجمل رسماً لمشهدها ودلالة حركتها في الـ [ قبل ] وفي الـ [ بعد ] لتمنحنا صدقاً بالكذب بين أطراف الحكاية . عبدالإله أقسم أنّ لوجودك : كائناتٌ أخرى تبتهج . شكراً بحبٍ ومودة . |
عبدالاله الانصاري
بـ إمكان أصغر الأشياء أن تكشف حقيقة أكبر الأشياء حجم القداحة الصغير قادر على إحراق غابة كما فعلت بـ نديم . ملاحظة : لن يتحول رماداً إلا في موقد النبلاء تذروه أنفاسهم النتنة . الأنصاري كنت ومازلت رائعاً ودمت بخير . |
نصّ صيغَ بحرفنةٍ مبدعةْ
دمتَ بودْ |
الساعة الآن 02:51 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.