![]() |
" وادي الفقاقيع "
وادي الفقاقيع
تنهد الفجر , وأطلق ديك القرية الغافية أول تراحيب الصبح ...فانتبه الحاكم فزعاً ! جلس على حافة الترف , بقطراتٌ من العرق محتشدةٌ في جبينه , ودمع وفير تسلل من عينيه مُتجمهراً على صدغيه .. عيناه العسليتان تعومان في الفراغ , تهبطان بقلبه و تعودان للطفو به , وهو يستعيد هيبة الأمواج , ويستعد لمطابقة ما حدث هذه الليلة مع الليلتين الماضيتين ... وقف على ساقين من الخوف أمام تساؤلات النافذة , إطارها الرخامي يعطي نبذةً مختصرةً عن السماء , وقد أفصحت أطرافها عن حضور النور, وألقت ببعض زينتها على حقول القمح ,وبذلت ما يكفي من السحر لبساتين الجلنَّار .. رويداً رويداً , أعلن الصبح للأرض احتفاله بالشمس , وكمسمارٍ قديم يقف الحاكم في مكانه لم يتزحزح , يسأل الرهبة عن الهدير الباقي في أذنيه : - تُرى ما الكلمة التي تقف في نحر هذه القرية ! وبأي لسانٍ تنوي أرضها مخاطبتي؟؟!! ماذا تعني الجذوع المتكسرة التي مرت بي و لم تأبه ليدي , ماذا عن شوالات الذهب , وفقاعات الصراخ !!! آخ , لو أنني لطَّختُ يديّ بحزن الطين لفهمتها , أو على الأقل لردت عليّ الآن... الصيف بدفئه , لم يكن قادراً على تجفيف خوفه , ذات الفصل يعود مجدداً للعبث معه بجرأةٍ أكبر , فيفتح فرجةً في صدره , ويركل النبض في ركنه الأقصى . و قلبه هناك , يغير رأيه في الاطمئنان , ويستعد لسحب أوردته والشرايين على مهل , حتى سكينةٍ لاحقه .. كل ذلك الهذر بالقلق , استحثه لاجتماعٍ عاجلٍ بساعديه ..قال وهو يتوسط مائدةً رخامية ضخمة ,عجت بغرور الأباريق الذهبية والصِّحَاف المُفضضة : - أرسلوا في طلب أشهر كهّان القرية ومؤوليها , واضربوا في مرابع القرى الصديقة بحثاً عن أصغرهم , حتى آخر من شارف بعمره على الخرف . انكشفت ضفتان من الذهول على جبيني ساعديه فقال " صخر" : - أظن أن الأمر متعلقٌ بما حدثتنا عنه قبل أمس الأول ..! هز الحاكم رأسه زافراً شيئاً من الضيق : - وإني لأشعر بالسماء مطبقةٌ على صدري ,وأسمع صوت أضلعي , وأحسُّ بقبضتين تعصران رئتي من الحياة ولا تُبقي .. أردف صخر : لا تقلق يا سيدي , أمرك نافذ .. انتفض كرسي "سُراقة " تباعاً لارتعاش أطرافه – يديه ورجليه المعلقتان في الهواء – فقفز كالزنبرك من فوقه متحججاً بألمٍ ألمّ ببطنه في حالةٍ طارئه , حتى انسحب بعد إذن الملك.. وعند بوابة القصر , ألقى سُراقة بكذبته في بركةِ نافورةٍ كبيرة , متوجهاً إلى شجرة لوزٍ عملاقة , حيث اعتاد أن يقاسم هرته برد تلك الشجرة الحزينة , ويجد متسعاً لاختلاس أفكاره بعيداً عن طغيان صخر .. هناك جلس مُستنداً بهمه على ساقها , و بيده كان يراكم شخبطات أفكاره الواحدة تلو الأخرى , يهز ما يجوس في نفسه بجذعٍ بائس , ويقطع آلاف الخُطى خارج القرية , حتى أعاده صوت صخر المنبجس من خلفه وهو يقول : - متى ستكف عن الحماقات يا سراقه ؟؟! ! انتصب سراقة بجانب صخر كشعرةٍ مقشعرّة , وقد ألقى الجذع و يقول : - أفكر جدياً بالهجرة من هذه اللعنة إلى قريةٍ أخرى مهما كلفني ذلك , المهم أن أنجو بعائلتي ... قاطعه صخر وعينيه ملتصقتان باللاشيء قائلاً : - وبجلدك يا جبان !! ما استثار سراقه وحداه للقول : - تعلم أني لست جباناً , وإن كنتُ كذلك , فأنا أقرّ اللحظة بفداحة ما فعلناه الربيع الماضي , وأعلم جيداً مثلما تعلم ما تعنيه رؤيا الملك ....! مد صخر يده وربت على رأس سُراقه المقابل لفخذيه قائلاً : - لا تقلق يا صغيري, أخشى عليك من التقلص أكثر إذا خفت . لن ينكشف أمرنا , ولن تعدو رؤيا الملك المزعومة أضغاث أحلام .. إنما احترازاً , تدبر الساعة أمر الكاهن " حنظلة " , فأنت من بُحت له برؤيا الملك . اقطع لسانه و أهده للسباع . خلال يومين على الأقصى سيُعقد اجتماع الكهنة والمؤولين , ولا أريد رؤياه بينهم .. بعد يومين , كان بلاط الحاكم قد تحول إلى خلية نحل , دوت فيه الآراء باختلافاتها : قال أحد الكهنة : إنها لعنة الغرقى الأربعة من العام المنصرم ، ستهبُ أرواحهم من العدم ، و ستفلق السماء هذا الشتاء الأظلم تنكل بأهل القرية تنكيلاً يُلجِم ، هكذا أخبرني رفيقي من الجان " أَقْتَمْ " .. قال آخر :" مَعَزْ " تلقي عليك التحية و تقول ، بأن الآلهة غضبى يا سيدي المسؤول ، وما ذاك إلا حزن أهل السماء على وجع الفلاحين ، و المستضعفين المأخوذين بجريرة الظلمة و الطامعين ... تقافزت الآراء , والحاكم منصت لحوافر قلبه , يركضُ قلقاً كمجنون, وخلفه حيرة تحد رؤيا العقل . انتبه لعبدٍ ضخم الجثة يتقدم نحوه مُضمراً حديثاً بين شفتيه , قال بثقةٍ أمام الحاكم : - رؤياك تقول , بأن السماء ستفتح أزرارها , لأن روح القرية ستفيض بحقولها , ببساتينها , بحجارتها , بالظلال وأصحابها .. استجمع سُراقة ارتباك اليومين الماضيين في حنجرته , صرخ فيه مقاطعاً : - ثكلتك أمك يا ابن السوداء .. ! قفز شابٌ آخر من جانب المجلس كفلاحٍ محترف , يعرف كيف يزرع خُطاه بأنَاه , ومتى يرش الحديث ... ثم قال : - لا تُسكته يا سراقه ! إنما قال حقاً , وأزيد بكلمتين " الطوفان قادم " ... أخذت تدب في أطراف العرش رعدة , ماج لها المجلس بالحديث , و سُراقة يجدد انفعاله صارخاً : - كلمةٌ واحدة وسأقطع لسانك يا ..... لم يتركه الحاكم ليتم عجرفته, فكان لزاما أن يُوقف النّزق بنَزق ويقول : - إما أن تبتلع لسانك يا سُراقه , أو تختار لك مجلساً غير هذا! انكمش سُراقة خَجِلاً , وانسحبت بقيته , فيما أمر الحاكم المُعَبّر الشاب بتتمة حديثه أمام حنق صخر , فقال : - أـما رؤياك فخرابٌ عام , لأن قوي القرية ينهب جيب ضعيفها , وكبيرها يدوسُ في صِحَاف الصغار , و مُترفها لا يفتح بابه لتضور الجياع , والعدل عاثرٌ على باب حجرتك , ليس لأنك مجحف , بل لأن هنالك من يدوس على كلمتك في الظلام! .. كل ذلك , والحاكم حليمٌ كمنسأةٍ على صاحبها , يُقدِّر في ذلك الشاب جرأته , وقدرته على إفشاء أمر الرؤيا . لكنه ورغم ذلك كان مشوشاً , يبحث في داخله عن طريقةٍ لردم النكبة المقبلة , حتى انتبه للفتى وهو يواصل الحديث : - ثمة ومضتان في الرؤيا تحملان لك البشرى لتتقي نزق الماء . ففي جذوع الشجر الكثيرة إشارة واضحة لبناء سفينة ضخمة , وشوالات الذهب إشارة إلى بذل المزيد من المال؛ لإعلاء السد الذي لم يكتمل بناؤه العام المنصرم .. فإن نجا الجميع , عليك بقطع دابر الخونة كما تأمرك رؤياك , وإلا فالفقاقيع ستغمر الوادي ثانيةً ... أوجس الحاكم خيفةً من تأويل الفتى , فأمر بانفضاض مجلسه . اجتمع لاحقاً بساعديه , سلمهما غالب ما في خزينة القرية ؛ ليعلي هامة الطمأنينة قبل مداهمة الشتاء , مُحذراً إياهم من العبث بعزائم الفلاحين وحقوقهم , حتى يحاسب كل من له يد أو حتى إصبع في عدم إتمام السد ... في نهاية الخريف , خفتت كثيراً جلبة الخوف التي انتابت القرية , فأنفق ساعدي الحاكم الذمم على اللهو , وأُتخمت مجالسهم بالغانيات وغنج الجوار , وفاحت بالإثم رائحة النبيذ ... الفلاحون , لم تُثر عزيمتهم المبالغ المجدوعة التي وصلتهم, بعد أن مرت على جيوب كبار القرية . الفلاحون الحزانى , لم تشد بطونهم الحجارة التي ربطوها في محاولة فاشلة لإقناع الجوع بالقوة , من أجل إعلاء أكثر من طابقين رمليين ... في حين هاجر أغلبهم فراراً من الخيبة للقرى البعيدة عن عجرفة النهر ... أما الحاكم فقد استيقظ يوماً من أيام الشتاء , والرؤيا حاضرة , بنفس التفاصيل . قطيعٌ أسود يهرول مقبلاً من أقصى الأفق والرعد يرعاه , الشمس تولي هاربة , تختنق الزرقة في الدقائق , تفتح السماء صنابيرها كطفلٍ يستهويه اللعب بصمت الصنابير , والماء يتواطأ مع الماء ؛ ليفيض بالفقاقيع , وفي الأفق ثمة فقاعة كبيرة تنفجر عن صوت الحاكم يسأل حزيناً : " لماذا أيتها الآلهة ؟ ". |
نعم للأمواج هيبتها
وللحرف رهبته ووقعه نهلة محمد كل الشكر والتقدير |
رؤياهم واقعهم القادم لا محالة و الفقاقيع الكبيرة صنعها صممهم عمّا حولهم لتبتلعهم أخيراً و تروح بهم إلى ما أبعد من الخوف.. نهلة و قلمٌ نشتاقهُ كثيراً و يعدنا دوماً بالأجمل . |
الساعة الآن 01:17 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.