![]() |
(] المقامةُ العَينيَّةُ [)
[] المقامَة العَيْنِيَّةُ [] حدَّثنا أبو الطيب الوائليُّ قال : لجأتُ في ليلةٍ قمراء ، في عتمةٍ سوداء ، أنهلُ في تقليبِ طروسِ الأدب ، ناظراً طقوسَ العربِ ، و عجائبَ كلامهم ، و غرائبَ أفهمامهم ، قاضياً الوقتَ بالعَمْرِ ، حافظاً مِن المقتِ العُمْرَ ، فوافاني ظِلُّ قائمٍ فرقَ رأسي ، مُنياً فَرْدَ نفسي ، فألقى التحيةَ و جلسَ ، و أنخى المطيَّةَ و همسَ ، أيها المدفونُ بين الأوراقِ ، ما أنتَ صانعُ بالاختناق ، اِرْمِني بنظرِ عينك شَيَّا ، و أرني منكَ جليَّا ، فقلتُ : أنا ذا يا صاحَ ، بدا لكَ مني الإفلاح ، فُهْ بمرادك ، و تُهْ بِنجادِك ، فإنِّي بأمرك ساعٍ ، و لِحَفْرِكَ ناعٍ ، فما اختناقي بأوراقي ، إلا لاتساقي بأنساقي ، و سِعايةُ حاليِ بموروثي ، و رِعايةُ شاني بمحروثي ، تلكَ بقيةُ آلِ جنسِ العرَبِ ، و صَفيَّةُ نفسِ الأدب ، أُعلِّلُ النفسَ تِعلالةَ (1) الأريب ، و أُعلُّ النحْسَ عِلَّةَ الغريب ، أنتخبُ نَقاوةً نقيةً ، و أنتجبُ صفاوةً صفيَّةً ، فأنشرُ غزلَها في الأُفُقِ ، و أنثرُ جَزلها في البَسَقِ (2) ، لتكون فيئاً مِن شَمسِ الردى ، و سابلةً (3) لِطُرُقِ الهُدى . فقال : و ما كان مبلغُ وقفك ، و منتهى رَصْفك ؟ ، فقلتُ : احتواءُ اللفظِ معانيَ عددا ، بِألحاظٍ قِددا (4). فقال : عدكَ من هذا الهُراء ، و تجاوزه بِلا عناءٍ ، و لنقصد دارَ الأستاذ الأكبر ، و العلامة الأبهر ، فلديه أكابرُ اللغاة ، و أشاهر النُّحاة ، ممن يكفونكَ مؤنةَ التحقيق ، و يعطونك مُكنةَ (5) التوثيق ، فبادرهم بما أنتَ لاقٍ ، و سامرهم بما أنتَ ساقٍ . فقدنا دارَ أستاذِ البَلَد ، و عانينا النَّصَبَ و الكَبَد ، فانتهى بنا المجلسُ إلى قُرْبِ مجلِسِه ، إذْ خلى مجلِسُه مِن مُؤْنِسِه ، سِوى بِضعةً من بقيةِ الزمن الماضي (6) ، و كُلٌّ بحالِهِ راضي ، فأتى بِهالةِ العلم و الأدب ، و هندام القدرِ و الرُّتَب ، فأولانا حديثاً حَسَناً ، و تولانا بنظرٍ مُستحسناً ، فقال له صاحبي : " أستاذ الزمان ، و مفخرة المكان ، هذا صاحبٌ لي في قَصِيِّ البلاد ، مُغرَمٌ بإرْثِ أهلِ الواد (7) ، وقفَ على عجيبٍ من كلام العربِ الأقدمين ، و قطفَ مِن غريبٍ لهم في الزمن المُبين ، فآثرَ الجلوسَ إليكم ، و الإقبال عليكم ، لتمنحوهُ ما الله فاتحه ، و إياكم مانحه " . و ما كان وربي في ذاك صادقاً ، و لأواصر الأُخوةِ ماحقاً ، فخضعتُ للكُرْبة ، ليقيني بالغربة ، و أن الأستاذَ أشأمَ (8) عن اللغةِ ، و أسأمَ مِن المَنْبَغَة (9) ، فقلتُ : إن للعربِ لفظاً ذا محامل ، و حرفاً غيرُ خامل ، فيغدو منهم اللفظُ سائراً بمعانٍ كثيرة ، و مقاصد كبيرة ، يُقلَّبُ بها الكلام تقليباً ، و يُغرَّبُ الحديثُ تغريباً ، و لا يُدركُ إلا مَن غدا فاقهاً ، و بالبلاغةِ فائهاً ، و يُرْنَى به في التوجيهِ رَبوة الكمال ، و في التنويهِ رَقية الجمالِ ، فما تركتِ الأوائلُ هُجراً ، و لا مَضَتْ فُجراً ، و إني لرائمٌ من ذلك سابلةً ، و ناحٍ غايةً فاضلةً ، فأحبِكَ المعاني حبْكَ الخبير ، و أسبِك المقاصِد سَبْك البصير ، فأخذتُ لفظَ " العين " المهمولِ نَقْطُه ، المجزولِ وَقْطُه (10) ، فبنيتُ على معانيهِ بناءً متراكباً ، و أظهرتُ سِرَّهُ ظهوراً راحباً ، ليُدرَك ما للعربيةِ من كنزٍ ، و ما فيها إليهِ مِن رمزٍ ، و ليسَ إلا شيئاً مجهولاً ، و من أصله معزولاً . فقال الأستاذُ : و ما نفعُ ذا ، فليسَ أصلاً يُحتذى ، و لا للأستاذِيْنَ (11) تلميحٌ إليه ، ليُقْبَلَ عليه ؟ ، و ما بناءٌ جوهريٌ على لفظٍ ظاهريٍ إلا آيلٌ (12) إلى هدمٍ ، و قبيحٌ في رَسْمٍ ، فلا أُراكَ (13) إلا أبعدتَ النُّجعةَ (14) ، و قبَّحْتَ الصنْعةَ ، فهاتِ ما أنتَ إياهُ تقصدُ ، و ما نَحوتَ مرتَعَه ترْفِد . فقلتُ : أيها الأستاذ الجليل ، و الملاذُ النبيل ، أقفُ بين يديك بجلبابِ الأدبِ ، و انثرُ عليك سِرَّ لفظ العربِ ، فدونَكَهُ مَسروداً ، و إيَّاكَهُ منقوداً ، بيسيرٍ من الإيجازٍ ، لكثيرٍ من الإنجازِ ، و أشيرُ إلى معانيها بالحصرِ بالأقواس ، استجماعاً لضبْط الأنفاسِ ، سائراً بها تِلْواً ، جارياً طرْحها خِلْواً . الإنسانُ لا يستقيمُ قيامُ رِجله ، و لا ينتهضُ وقوفُ أصلِهِ ، إلا على (عين / " عين الرُّكبَة " ) صحيحة ، فاصلةٍ بين ساقٍ و فخذٍ فَريْحة (15) ، في الرُّكبةِ كامنة ، و مِن المصائبِ آمنة ، فلا عِمادَ لمسيرٍ إلا بعينٍ القيامِ ، و لا قَصْد للمصيرِ إلا بحُسْنِ الالتئامِ ، و يُعنى بها في جوهرِ القصد ، و مصدرِ الوِرْد ، اعتمادُ الإنسانِ على ذاتِهِ في طرْقِ بابِ الغايات ، و اعتدادهُ بصفاته في انتحاءِ النهايات ، و من ليس معتمداً على نفسِهِ ، و قائماً على وَحْي حَدسِه ، لا يقومُ غيرُه له ، و لا يُسعى لما يُرجى له ، فتلك حالةُ المخذولِ المهزوم ، و شأنُ المرذولِ المذمومِ ، و من نأى بنفسِه عن الضَّعَةِ ، و غادرَ الإمَّعَةَ ، معتمداً على عينِ الباطنِ ، لِتَصِحَّ عينُ الظاهرِ البائنِ ، فسيغدوُ بين الناسِ قُرَّةً (العَين / " عين الرأس " ) ، و حسَنةَ المكانِ و الزَّيْن ، و ما غدا بين الناسِ قُرَّةً ، و في جبين الدهرِ غُرَّةً ، إلا حيثُ أضحى قائماً بقُدرةِ ذاته في كلِّ بنايةٍ ، و بطاقةِ نفسه في كلِّ سِعاية ، فلم يُهملْ ما منحه اللهُ ، و لم يُمهلْ استباقَ أناه (16) ، أبصرَ ذلك يقيناً ، و بَدا له مُبيناً ، و من كانتْ عينُ رأسِه مطموسة ، و بصيرةُ قلبه منكوسة ، فلا يَرى إلا حالاً نَكْساً ، و أثراً عَكْسَاً ، و ذاك باقٍ في رَتْعةِ الردى ، و وتدِ الهوى ، و ذاك المُدرِكُ المبارك ، الساعي المُتدارِك ، يرتقي به شأنه و حالُه ، بَعْد أن زمانَه صفا له ، إلى أن يكون شاخصاً بـ ( عين ) رأسه ، و بصيرةِ نفسِه ، نحوَ ( عين / " عين السحاب " ) السماءِ ، و صفاء الارتقاءِ ، متتبعاً أبعادَ القادمِ ، رامياً بخيالِهِ قَنْصَ المغانمِ ، بِهمةٍ عاليةٍ كسماءِ عينِهِ ، و سموٍّ شامخٍ كسُموِّ أيْنِهِ (17) ، فلا مُستقبَل إلا ببُعْدٍ عن الحاضرِ ، و لا مَكمَلَ إلا على ظهرِ خيلٍ ضامرٍ ، تمامُ التطلُّعِ البعيد ، بالنظرِ السديدِ ، بـ ( عين / " الرقيب " ) المتابعةِ لسلامة المسير ، و المراقبةِ لرحلة المصير ، ففي غَيْبةِ الرقيبِ ضياعُ الطريقِ ، و ضياعُ الطريقِ ضمانةُ التخريقِ ، و ما تمام لوصولٍ إلا بِدلالةٍ واضحة ، و بينةٍ ناصحة ، فهي زادُ الغاية ، و مِهادُ النهاية ، صُدوراً عَن ( عَيْنِ / " الماء " ) الفِكرِ و الأرضِ ، إذ هما جناحا التحليقِ ، و بُلْغَةُ التوثيقِ ، فمعدومِ المعارفِ و العلومِ ، تائهٌ ضائعٌ إلى غيرِ مرسومٍ ، و فاقدُ الزادِ و المحلِّ ، خاسرٌ للأصلِ و الكلِّ ، فما عمارٌ إلا بِذَيْنِ ، و لا دمارَ إلا بِمَيْنِ ، و مَيْنُ العلائقِ ، بِرَيْنِ (18) الحقائق ، و صِحاحُ تلكَ العينِ ، قائمُ سَلامة الوَزْنِ مِن ( عين / " الميل بالميزان " ) السُوءِ ، و خيبةِ المخبوءِ ، ليكون سلوكُ البناءِ على وَزْنِ البَدْءِ و الأوليَّةِ ، ليستقيمَ عطاءُ الآخرية ، و الإخلالُ في الوَزْنِ ، إيذانٌ بالوَهْنِ ، فلكلٍّ حقٌّ واصلٌ ، و محقٌ فاصلٌ ، و صَونُ المَيْلِ بأصْلِ العدْلِ الصادقِ ، القائمِ بالصدقِ الواثقِ ، و يقينٌ اعتراءُ العدلِ ( عين / " ثقبُ المزادة ( القِرْبة ) " ) النقصِ ، و طروءِ الوَقْصِ (19) ، و ليس ذا مَعيباً في الكمالِ ، بل ثَغرةٌ في النِّزالِ (20) ، و درْءُ ذلك بوَزْنٍ القائمة ، و صَوْنِ السائمة ، و الاعتمادِ على ( عين / " المالُ الناضُّ ( اليسير ) " ) دون تكلُّفِ مفقودٍ ، و تجاوُزِ موجودٍ ، فما لمْ يَقُمْ بمَرْضِيٍ آنِيٍّ ، لا يقومُ بمطلوبٍ دانيٍّ ، حيثُ البَدءُ في العَمْرِ مِن الذاتِ ، و غَمْرُ العَمْرِ بِوَثَبَاتٍ دونَ ثباتٍ ، و ذِهْ تَجعلُ المُلازِمَ ( عين / " وَجيه " ) زمانِه ، و زَيْنَ مكانِه ، لسموِّ ما لَزِمَه ، و عُلُوِّ ما استلأمَه (21) ، و مثلُ هذا الجنسِ من الناسِ ، هم مفاخرُ الأجناسِ ، إذْ غَدو ( عين / " نَبْت " ) البلادِ ، و جمالَ الناسِ و النادِ (22) ، فَبِهم عَقْد العَدِّ ، و رَصْدُ المَجْدِ ، و سِواهمُ مُصابُ بِعُوْرٍ و عَمَشٍ ، و حَوَلٍ و غَبَشٍ ، و انتهى رَسْمُ معنى اللفظِ ، برَقْمِ (23) حِبْر اللحظِ ، بقليلٍ مِن كثيرٍ ، و عَوْدٍ للبصرِ بتحسيرٍ . فقام الأستاذُ قائلاً ، و فاهَ في الجُلَّسِ ماثلاً ، تلك العربُ حوتْ ألفاظها ما سمعتْ آذانكم ، و وعتْه قلوبكم ، فأدركوا كنزها ، و صُونوا رمزها ، و أنتَ أيها الأديب الظريف ، و الأريبُ اللطيفُ ، مشكورَ الحالِ أنتَ ، مكثورَ الثناءِ حيثُ كُنتَ . فغادرتهم حيثُ محلِّي ، و أسلمتهم كثيري و قِلِّي . ___ عبد الله العُتَيِّق 16/8/1429 __ (1) تفعالةٌ مِن العلَلِ ، و يُراد بها تَكرارُ الشيءِ . (2) البَسَقُ : ارتفاع الشيء . (3) السابلةُ : المختلفةُ من الطُرُقِ . (4) جمْعُ قِدَّةٍ ، و هي الفرقة و الطريقة . (5) من التمكُّنِ . (6) كنايةً عن كونهم شيوخَ سِنٍّ . (7) وادي مكة (8) كنايةً عن أنه ليس يعرف في اللغة . (9) مَفْعَلة من النبوغِ . (10) الوقْطُ : وقْعُ الشيءِ على الشيءِ . (11) جمعُ أستاذٍ . (12) راجع . (13) أظنك . (14) النُّجْعةُ : طلبُ الكلأ ، و يُرادُ هنا : أبعدتَ الطلبَ . (15) فريحةٌ من الإفراحِ و هو الإثقال ، و الفخذ أثقلُ من الساقِ . (16) أناه : أنا مُضافاً إليها ضمير الغائب . (17) أي : سموَّ مكانه ، عُبِّرَ بالأينِ صيغة السؤال عن المكان . (18) الرين : الغطاء ، و المعنى : تغطية الحقائق و طمسها . (19) الوَقْصُ : الكسْرُ . (20) أي : شيئٌ لازمٌ في المنازلاتِ و المغامراتِ ، كجُرْحِ المبارِزِ . (21) استلأمَ الرجلُ : لبسَ لأمتَه / درْعه . (22) النادي ، و هو مجمعُ الناسِ . (23) كَتْب . اعتذارٌ : أواجه مُشكلةً في التنسيقِ منذ فترة ، فلذا لم يُنسَّق النصُّ بشكلٍ جماليٍ . |
عبدالله العتيق
ـــــــــــــــ * * * مقامتُك : من قامتك ، و قامتك تلامس غمامتك ، و غمامتك سابحةٌ في سمائك السامِيةُ عن كُلّ سماء . أيّها العتيق الأنيق الرقيق ، لغةً و فكرا ، تُذهل مُتتبّعك ، فيُشغل عن الاتباع بـ الامتاع ، و عن الذهول بـ القول _ و لا يبقى غيرُ الثناء و الامتنان . : شكراً .. شكراً تلك التي لم يُخلق مثلها في البلاد . |
اقتباس:
الراقي / قايد الحربي و للسماءِ كونٌ يحتويها ، فكنتَ أنت شرفتني بحضورك ، و آنستني بمرورك كمْ كَمِّ كِمٍّ كُمَّ إليك مِنِّي بالشُكرِ الرفيع __ عبد الله |
عبدالله العتيق
دام مقامك رفيعاً شكرا لقلبك بالتحديد لك عمق ودي |
قرأتها بروية.. وقطفت الكثير من النور المتدلي في حروفها.. سابحة هذه القطعة الفنية في فيضان اللغة عبدالله العتيق.. كـ أجنحة الروح حين تغني ودّ وياسمين |
اقتباس:
الراقي / فيصل الحلبوص الشمري . مرحباً بوجودك . و دمتَ كذلك و أزيَدَ . و وِداًّ يَغشاك دوما __ عبد الله |
اقتباس:
الراقية / سمية عبد الله . لمروركِ لمعانُ السُموِّ المُعَبَّدِ برسوخِ الثباتِ فأشكرُ لك حرفَك الوضَّاء دومي بارتقاءٍ ___ عبد الله |
الساعة الآن 01:08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.