![]() |
سرداب التاجوري
عندما كنت صغيرة ، كنت أسكن مع أسرتي في بيت من بيوت التاجوري .
وأذكر أنني كنت أجد كلامي ، وضحكي بل وأنفاسي تختبئ بين طوب البيت القديم . وكنت أركض حافية القدمين في دهاليزه الطويلة فتدخلني برودة الطبطاب من أسفل قدميّ وتُذهب قيظ الصيف. وفي الصباح اعتدت أن أغسل مع أمي درج البيت المتآكل بمكنسة من جريد النخل ، وعند ما ننتهي يجفف الدرجَ الهواءُ الذي يتخلل البيت من النوافذ والأبواب . وكنت أحب بعد ذلك أن أسترخي على بسطة الدرج ، وأضع خدي على الأرض الرطبة الندية ، وأشم رائحتها فتدغدغ مشاعري ، وقد يسرقني النوم هناك فتحملني أمي وتضعني في فراشي . وبعد العصر تجتمع بنات الجيران في بيتنا ونجلس على ( الدكَّة ) القريبة من باب البيت مع عرائسنا القماشية المحشوة بالقطن والمزينة بالشرائط الملونة والأزرار والكشاكش ، ثم نخرج من هذا العالم إلى عالم العرائس وقصصهن المشوّقة ، ونصنع لهن بيوتا ودواليب وأسرّة من بقايا الصناديق الخشبية الملقاة في زوايا الحارة . وحين تنعس العرائس وتنام تنصرف البنات مع عرائسهن . أحببت كل مكان في بيتنا : ( القاعة ) و ( الديوان ) و( المقعد ) والحجرات الأخرى ، خلا مكان واحد هو ( السرداب) ، وهو مكان معتم مجهول في الطابق السفلي ، مغلق بباب خشبي مشروخ ، وكنت أخشى رؤية بابه فكيف لو أنني دخلته ؟ . بعض جيراننا قالوا : إنه نفق ضيق مهجور يربط التاجوري ب (المناخة ) وبعضهم قالوا : إنه مسكن للجن ، أما أمي فكانت تملّ من أسئلتي الكثيرة عن السرداب ولا تجد جوابا فتقول لي : إنه نفق طويل يمتد كالعروق في جسد المدينة المنورة . فأسألها : وإلى أين يذهب ؟ . ـــ إلى قلب المدينة الذي يحبنا ونحبه . فأصمت حينئذ ولا يبقى في نفسي شيء سوى تخيّل تلك العروق المتصلة بالقلب ، فيقشعر جسدي ويغمرني إحساس مبهم لا أعلم ماهيته . وفي المساء كانت أمي تعبئ ( السطل ) بالماء من الطابق السفلي وتصعد الدرج المؤدي إلى سطح البيت الترابي، فترشُّ التراب بالماء ثم تفرش بعض الحصير ،و تضع فوقه أبسطة ، وفُرُشاً ، ووسائد لننام عليها . كانت حكايات أمي تتفتح فوق السطح كالأزهار وأنا أحدق في النجوم البعيدة في السماء ، وأصغي إلى حكاياتها عن بلدتنا الصغيرة في فلسطين ، وعن بيوت تلك البلدة التي يحتضن كل بيت فيها ساحة صغيرة مزروعة بأشجار البرتقال والزيتون ، وعن رائحة تلك الأرض التي تتشبث بجذور الأشجار بقوة ، وعن لون ترابها الطيب الخصيب . وكانت تصف طرقات تلك البلدة التي تمتد كالأذرع القوية وتضم البيوت ، وعن سمائها الصافية ، وهوائها العليل ، وبيت جدي القديم وأثاثه المرتّب ، والسلال المنسوجة من الجريد الممتلئة بخيرات تلك الأرض ، وخبز جدتي الشهي الساخن الذي تعجنه بيديها وتخبزه في التنور. وحين تنتهي أمي من حكاياتها تبلّل دموعها خدي فتتحرك في نفسي لواعج الشوق إلى رؤية تلك البلدة . وذات مرة سألت أمي : لو أن اليهود خرجوا من بلدتنا فهل نرجع إليها ؟ . ــــ بالطبع يا حبيبتي ! ، أهلونا وبيوتنا ومزارعنا وسماؤنا كلهم يتحرقون شوقاً إلى رؤيتنا ، ونحن أيضا نحلم بذلك اليوم. ــــ ولكنني يا أمي أحب بيتنا هذا . فصمتت أمي ولم تقل شيئاً. وذات يوم استيقظت من نومي فرأيت والديّ يعدان حقائب السفر ويحزمان متاع البيت ، و قالا: الحمد لله ! ، خرج اليهود من بلدتنا .سنرجع إلى أرضنا و أهلينا ومزارعنا . فذهبتُ إلى الطابق السفلي ، وفتحتُ باب السرداب المشروخ . هربتُ مع عروستي ، و اختبأتُ في ذلك المكان الممتلئ بالأخشاب والمتاع القديم والتراب والرطوبة . ــــــــــــــــــــــــــــ التاجوري والمناخة هما من الحارات القديمة في المدينة المنورة . قصتي هذه هي من ضمن قصص مجموعتي القصصية الأولى( سرداب التاجوري ) التي صدرت عن دار المفردات في 1428ه |
سرد جميل ياعزيزتي
واسلوب له ايحاءات عميقة تكتبين بمشاعر تتأرجح بين واقعية وخيالية ممايعطي اسلوبك الجذب الجميل تقديري لنبضك الجميل يامريم |
أسلوب الجذب لمواصلة هذا السرد مشوق جدا، سأبحث عن الـ ( مجموعة القصصية ) فحتما سيكون لي بها متنفسا كبيرا كما هنا، تستحق التميز ،، http://www.ab33ad.com/vb/Traidnt/ab3...g/rating_5.gif شكرا لكِ، وسأعود حتما لمواصلة هذا النهل السردي الأنيق، تحياتي |
.. قد تجدين قصصا أخرى بين سرداب و ظلام! و تفتحين للأمل بابا من خلال الجن .. فالإنس قد قتلهم الأنس و النسيان الكلي لأمر السرداب و طريق النور المتجه نـحو المدينة .. يا مريم قصتك تجعلني أتخيل أمورا أخرى . قد أكتب قصة أخرى لوحدي ، فلتصدقها عرائسنا وحسب! أهلا بك أهلا وشكرا لمَ كتبتِ من جمَال |
مريم الضاني قصة جميلة وحوار مشوق وممتع اهلا بكِ وبقلمكِ بـ أنتظار القادم لكِ كل الود :34: |
اقتباس:
|
أستاذ إبراهيم آل لباد : شكرا جزيلا لك لمنحك قصتي وسام التميز ولتعليقك المشجع . يشرفني التواجد في منتداكم الراقي ويسرني اطلاعكم على قصصي الأخرى التي سأنشرها هنا بحول الله وآمل أن تنال استحسانكم .
|
عزيزتي ندى : ندى تعليقك علق بكلماتي ومنحها الجمال والنداوة . سعدت لأن القصة فتحت في روحك نافذة خفية وفتحت شهيتك على الكتابة . تسلمي لي .
|
الساعة الآن 04:52 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.